قوله عز وجل:
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا
أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية أن يخاطبهم بتوبيخ، فأعلمهم بأن الفرار لا ينجيهم من القدر، بأنهم لا يمتعون في تلك الأوطان، بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة، والقليل الذي استثناه هي مدة الآجال، قاله ، ثم وقفهم على الربيع بن خثيم من الله يسندون إليه، ثم حكم بأنهم لا يجدون ذلك، ولا ولي ولا نصير من الله عز وجل. وقرأت فرقة: "يمتعون" بالياء، وقرأت فرقة: "تمتعون" بالتاء على المخاطبة. عاصم
ثم وبخهم بأن الله يعلم المعوقين، وهم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول، ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك، ويسعون على الذين ينصرونه، [ ص: 101 ] وتقول: عاقني أمر كذا، وعوقني إذا بالغت وضعفت الفعل.
وأما القائلون فاختلف الناس في حالهم، فقال وغيره: أراد المنافقين، يقول المنافق لإخوانه في النسب وقرابته: "هلم إلينا" أي: إلى المنازل والأكل والشرب وترك القتال، وروي أن جماعة منهم فعلت ذلك. وروي ابن زيد أن رجلا من المؤمنين رجع إلى داره فوجد أخا له منافقا، بين يديه رغيف وشواء ونبيذ، فقال له: أتجلس هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال؟ فقال له أخوه: هلم إلى ما أنا فيه يا فلان، ودعني من محمد فقد والله هلك، وما له قبل بأعدائه. فشتمه أخوه وقال: والله لأعرفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الآية نزلت.
وقالت فرقة: بل أراد من كان من المنافقين يداخل كفار قريش من العرب، فإنه كان منهم من يداخلهم، وقال لهم: "هلم إلينا"، أي إلى المدينة فإنكم تغلبون محمدا، والإخوان- على هذا - هم في الكفر والمذهب السوء.
و"هلم" بمعنى: أقبل، ومن العرب من يستعملها على حد واحد في المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، وهذا على أنها اسم فعل، هذه لغة أهل الحجاز، ومنهم من يجريها مجرى الأفعال فيلحقها الضمائر المختلفة، فيقول: هلم، وهلموا. وأصل "هلم": "هالمم"، نقلت حركة الميم إلى اللام فاستغني عن الألف، وأدغمت الميم في الميم لسكونها فجاء "هلم"، وهذا مثل تعليل: "رد" من اردد.
والبأس: القتال، و"إلا قليلا" معناه: إلا إتيانا قليلا، وقلته يحتمل أن يكون لقصر مدته وقلة أزمنته، ويحتمل أن يكون لقلة عقابه، وأنه رياء وتلميع لا تحقيق.