ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور
الرؤية في قوله تعالى: "ألم تر" رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب; لأن الحجة بها تقوم، ولكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحيانا تكون الحاسة البصر، وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، و"أن" سادة مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب ، لأن "أن" مع ما دخلت عليه جملة، ولا يلزم ذلك في قولك: رأيت وظننت ذلك; لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي "أن" ومذهب سيبويه أن المفعول الثاني محذوف، تقديره: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء حقا؟ ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة. الزجاج
[ ص: 216 ] وقوله تعالى: "ألوانها" يحتمل أن يريد الصفرة والحمرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد الأنواع، والمعتبر فيه - على هذا التأويل - أكثر عددا.
و"جدد" جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا، ومنه قول امرئ القيس:
كأن سراته وجدة ظهره ... كنائن يجري بينهن دليص
وحكى في بعض كتبه أنه يقال: "جدد" في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ أبو عبيدة : [جدد] بفتح الجيم. الزهري
وقوله تعالى: وغرابيب سود لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب"، أي الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو.
وقوله تعالى: مختلف ألوانه قبله محذوف إليه يعود الضمير، تقديره: "والأنعام خلق مختلف ألوانه"، والدواب يعم الناس، والأنعام ولكن ذكرا تنبيها منهما. وقوله: "كذلك" يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنا، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني، يخرج مخرج السبب، كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله إنما يخشى الله من عباده العلماء، أي المحصلون لهذه العبر، الناظرون فيها. وقال بعض المفسرين: الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت [ ص: 217 ] عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال: العلم رأس الخشية وسببها، والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خشية الله رأس كل حكمة"، وقال: "رأس الحكمة مخافة الله"، فهذا هو الكلام المنير، وقال رضي الله عنهما: "كفى بالزهد علما"، وقال ابن عباس : "كفى بالمرء علما أن يخشى الله"، وقال تعالى: مسروق سيذكر من يخشى ، وقال عليه الصلاة والسلام: وقال "أعلمكم بالله أشدكم له خشية"، : "من لم يخش الله فليس بعالم"، ويقال: إن فاتحة الزبور: "رأس الحكمة خشية الله" وقال الربيع بن أنس : "كفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا"، وقال ابن مسعود مجاهد : "إنما العالم من يخشى الله"، و[إنما] في هذه الآية لتخصيص العلماء لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر، وتأتي أيضا دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت: إنما الشجاع عنترة، وقلت: إنما الله إله واحد، بان لك الفرق فتأمله. والشعبي
وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة، والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.