الدين في هذه الآية: المعتقد والملة بقرينة قوله: قد تبين الرشد من الغي والإكراه الذي في الأحكام من الأيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية.
فقال الزهري: سألت عن قوله تعالى: زيد بن أسلم لا إكراه في الدين فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلهم فاستأذن الله في قتالهم فأذن له، قال والآية منسوخة في هذا القول. الطبري:
[ ص: 30 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويلزم على هذا أن الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف.
وقال قتادة، هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قالا: والضحاك بن مزاحم: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف"، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية، ونزلت فيهم: لا إكراه في الدين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى مذهب أن مالك: سوى الجزية تقبل من كل كافر قريش - أي نوع كان - فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك.
وقال ابن عباس، إنما نزلت هذه الآية في قوم من وسعيد بن جبير: الأوس والخزرج، كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فكانت تجعل على نفسها -إن جاءت بولد- أن تهوده، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه؟ فنزلت: لا إكراه في الدين الآية. وقال بهذا القول عامر الشعبي، ومجاهد، إلا أنه قال: كان سبب كونهم في والحسن، بني النضير الاسترضاع. وقال نزلت الآية في رجل من السدي: الأنصار يقال له أبو حصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا، ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما، فنزلت: لا إكراه في [ ص: 31 ] الدين ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب - وقال: أبعدهما الله، هما أول من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله جل ثناؤه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . ثم إنه نسخ: "لا إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.
والصحيح في سبب قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي.
وقوله تعالى: قد تبين الرشد من الغي معناه: بنصب الأدلة، ووجود الرسول الداعي إلى الله، والآيات المنيرة. والرشد مصدر من قولك: رشد - بكسر الشين وضمها - يرشد رشدا ورشدا ورشادا - والغي مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي، ولا يقال الغي في الضلال على الإطلاق - وقرأ "الرشاد" بالألف. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: الحسن، والشعبي، "الرشد" بفتح الراء والشين، وروي عن ومجاهد: "الرشد" بضم الراء والشين. الحسن
والطاغوت: بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى يطغو إذا جاوز الحد بزيادة عليه ووزنه فعلوت. ومذهب الطبري: أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل، ومذهب سيبويه أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام فقيل: طاغوت. وقال [ ص: 32 ] هو جمع، وذلك مردود. واختلف المفسرون في المبرد: - فقال معنى الطاغوت عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، وقتادة الطاغوت : الشيطان - وقال والسدي: ابن سيرين، الطاغوت : الساحر. وقال وأبو العالية: سعيد بن جبير، ورفيع، وجابر بن عبد الله، الطاغوت : الكاهن. وابن جريج:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت، لأن كل واحد منها له طغيان، والشيطان أصل ذلك كله. وقال قوم: الطاغوت: الأصنام. وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام، ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة، وذلك مجاز، إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان.
وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت.
والعروة في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي، و"استمسك" معناه قبض وشد يديه، و"الوثقى" فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه بالعروة - فقال العروة الإيمان. وقال مجاهد: الإسلام. وقال السدي: سعيد بن جبير، العروة: لا إله إلا الله. وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد [ ص: 33 ] والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه، والفصم كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة، ومن ذلك قول والضحاك: ذي الرمة:
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات "سميع" من أجل النطق و"عليم" من أجل المعتقد.