وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير
كانت النذور من سيرة العرب، تكثر منها، فذكر تعالى النوعين: ما يفعله المرء تبرعا، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله ينذر بضم الذال وينذر بكسرها.
وقوله تعالى: فإن الله يعلمه قال معناه: يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم، يذهب فعله باطلا، ولا يجد ناصرا فيه، ووحد الضمير في "يعلمه" وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص. مجاهد:
وقوله تعالى: إن تبدوا الصدقات الآية. ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال "جعل الله ابن عباس: يقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا، قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها". صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك. "صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا [ ص: 81 ] المكتوبة"،
وقال هذه الآية في التطوع، وقال سفيان الثوري: إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر - وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال يزيد بن أبي حبيب: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل، قال الطبري: المهدوي: وقيل: المراد بالآية فرض الزكاة، وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع، وهذا القول مخالف للآثار، ويشبهه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء - وقال إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: النقاش: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية الآية.
وقوله: فنعما هي ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء.
واختلف القراء في قوله: فنعما هي ، فقرأ في غير رواية نافع ورش، وأبو عمرو، في رواية وعاصم أبي بكر، "فنعما" بكسر النون وسكون العين. والمفضل:
وقرأ في رواية عاصم حفص، وابن كثير، في رواية ونافع "فنعما" بكسر النون والعين، وقرأ ورش: ابن عامر، وحمزة "فنعما" بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم. [ ص: 82 ] قال والكسائي: من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين، الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو: دابة وضوال، وشبهه، ولعل أبو علي: أخفى الحركة واختلسها، كأخذه بالإخفاء في "باريكم ويأمركم" فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه. أبا عمرو
وأما من قرأ "نعما" بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة نعم بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون ممن يقول: نعم، ألا ترى أن من يقول: "هذا قدم ملك"، فيدغم "هؤلاء قوم ملك" و"جسم ماجد".
وقال "نعما" بكسر النون والعين ليس على لغة من قال: "نعم" فأسكن العين، ولكن على لغة من قال: "نعم" فحرك العين، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة سيبويه: هذيل، وكسرها -كما قال- لعب ولو كان الذي قال: "نعما" ممن يقول: نعم بسكون العين لم يجز الإدغام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين. قال وأما من قرأ: "نعما" بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم، ومنه قول الشاعر: أبو علي:
[ ص: 83 ]
ما أقلت قدماي إنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام: "نعم" بسكون العين، وقال المهدوي: وذلك جائز محتمل، وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين.
قال و"ما" من قوله: نعما في موضع نصب، وقوله: "هي" تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر، والتقدير: نعم شيئا إبداؤها، وقوله: والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا قوله: أبو علي: فهو خير لكم أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير فحذف الإبداء، وأقيم ضمير الصدقات مقامه.
واختلف القراء في قوله تعالى: ويكفر عنكم ، فقرأ أبو عمرو، وابن كثير، في رواية وعاصم "ونكفر" بالنون ورفع الراء، وقرأ أبي بكر: نافع، وحمزة، "ونكفر" بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن والكسائي: وقرأ عاصم، "ويكفر" بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عامر: "وتكفر" بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ ابن عباس: "وتكفر" بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة: "ويكفر" بالياء وجزم الراء، وروي عن الحسن: أنه قرأ و"يكفر" بالياء ونصب الراء، وقال الأعمش قرأ أبو حاتم: "يكفر" بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء. الأعمش:
وحكى المهدوي عن أنه قرأ "وتكفر" بالتاء ورفع الراء، وحكي عن ابن هرمز عكرمة أنهما قرآ بتاء ونصب الراء. وشهر بن حوشب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة [ ص: 84 ] فاعلة إلا ما روي عن من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات. وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر - والإعطاء في خفاء هو المكفر أيضا كما ذكره عكرمة وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره: ونحن نكفر، أو: وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني: القطع والاستئناف، وألا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة. وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى: مكي، فهو خير إذ هو في موضع جزم جوابا للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع، كما جاء قراءة من قرأ: "من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم" بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة.
وأما نصب الراء فعلى تقدير "أن" وتأمل، وقال المهدوي: هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى.
و"من" في قوله: "من سيئاتكم" للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى عن فرقة أنها قالت: "من" زائدة في هذا الموضع، وذلك منهم خطأ. [ ص: 85 ] وقوله: الطبري والله بما تعملون خبير وعد ووعيد.