وقوله عز وجل:
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما
لما بلغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة "كجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع" عقب ذلك بأن عذر من العمى والعرج والمرض جملة، ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما، فالفرض متوجه بحسب الوسع، ومع ارتفاع الحرج، فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف; لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وألا يفر، وقد غزا أهل الأعذار وكان يمسك الراية في بعض حروب [ ص: 678 ] ابن أم مكتوم القادسية، وقد خرج هذا المعنى وذكر النسائي رضي الله عنه. ابن أم مكتوم
وقرأ الجمهور من القراء: "يدخله" بالياء، وقرأ ، ابن عامر ، ونافع ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والحسن وشيبة ، : "ندخله" بالنون، وكذلك: "يعذبه" و"نعذبه". وقتادة
وقوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة، وبهذا سميت بيعة الرضوان، والرضى بمعنى الإرادة، فهو صفة ذات، ومن جعل "إذ" مسببة، بمعنى: لأنهم بايعوا تحت الشجرة جاز أن يجعل "رضي" بمعنى: إظهار النعم عليهم، بسبب بيعتهم، فالرضى - على هذا - صفة فعل، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها.
وكان سبب هذه المبايعة مكة رجلا يبين لقريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي، وحمله على جمل يقال له: الثعلب، فلما كلمهم عقروا الجمل وأرادوا قتل خراش فمنعه الأحابيش، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأراد بعث رضي الله عنه، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله، إنك قد علمت فظاظتي على قريش، وهم يبغضونني، وليس هناك من عمر بني عدي بن كعب من يحميني، ولكن ابعث ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب، فلقيه عثمان بن عفان ، فنزل عن دابته وحمله عليها، وأجاره حتى إذا جاء قريشا فأخبرهم، فقالوا له: إن شئت يا أبان بن سعيد بن العاص أن تطوف بالبيت فطف، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه، فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن عثمان بني سعيد بن العاصي حبسوا على جهة المبرة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من عثمان مكة على عشرة أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل ، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالوا: لا نبرح إن كان [ ص: 679 ] هذا حتى نلقى القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، ونادى مناديه: أيها الناس، البيعة البيعة. نزل روح القدس، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا عثمان الجد بن قيس المنافق، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده، وقال: هذه يد ، وهي خير من يد عثمان ، ثم جاء عثمان رضي الله عنه بعد ذلك عثمان سالما ، والشجرة سمرة كانت هنالك، ذهبت بعد سنين، فمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى رضي الله عنه بالموضع في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيروا، هذا التكلف. عمر
وقوله تعالى: فعلم ما في قلوبهم ، قال قوم: معناه: من كراهة البيعة على الموت ونحوه، وهذا ضعيف فيه مذمة للصحابة رضي الله عنهم، وقال ، الطبري : معناه: من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه، وهذا قول حسن، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه، أما أنه يحتمل أن يجازى بالسكينة والفتح القريب والمغانم، وقال آخرون: معناه: من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه ومنذر بن سعيد رضي الله عنه وغيره، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب، والسكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له. وقرأ الناس: عمر "وأثابهم"، قال هارون: وقد قرئت: "وأتابهم" بالتاء بنقطتين.
و"الفتح القريب": خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله [ ص: 680 ] بخيبر، وخرج إليها لم يلبث، قال : وقد قيل: الفتح القريب: فتح أبو جعفر النحاس مكة و"المغانم الكثيرة": فتح خيبر، وقرأ في رواية يعقوب رويس: "تأخذونها" على مخاطبتهم بالتاء من فوق، وقرأ الجمهور: "يأخذونها" على الغيبة.
واختلف في عدة المبايعين، فقيل: ألف وخمسمائة، قاله ، وقيل: وأربعمائة، قاله قتادة ، وقيل: وخمسمائة وخمسة وعشرون، قاله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقيل: وثلاثمائة، قاله ابن عباس ابن أبي أوفى ، وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل، وأول من بايع في ذلك رجل من بني أسد يقال له: أبو سنان بن وهب ، قاله . الشعبي