تفسير سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل.
قوله عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم
كانت عادة العرب -وهي إلى الآن- الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك، قال : فربما قال قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا، ولو فعل الله كذا، وينبغي أن يكون كذا، وأيضا فإن قوما ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه قتادة وقوما فعلوا في بعض حروبه وغزواته شيئا بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك. الحسن بن أبي الحسن،
وحكى عن الثعلبي أنه قال: مسروق دخلت على رضي الله عنها في يوم الشك، فقالت للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إني صائم، فقالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم، عائشة وفيه نزلت: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، وقال : معنى "لا تقدموا": لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء، وتقول ابن زيد العرب: تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه إذا قلت فيه.
[ ص: 6 ] وقرأ الجمهور من القراء: "تقدموا" بضم التاء وكسر الدال، وقرأ ، ابن عباس ، والضحاك بفتح التاء والدال على معنى: لا تتقدموا، وعلى هذا يجيء تأويل ويعقوب، في المشي، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قول الله ورسوله. ابن زيد
وروي أن سبب هذه الآية هو بني تميم لما قدم قال رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أمرت أبو بكر الأقرع بن حابس، وقال رضي الله عنه: يا رسول الله بل أمر عمر بن الخطاب القعقاع بن معبد، فقال له رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، ويروى: إلى خلافي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتها، فنزلت الآية في ذلك، عمر وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله تعالى: "لا تقدموا" معناه: لا تقدموا ولاة، فهو من تقدم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال. و"سميع" معناه: لأقوالكم، و"عليم" معناه: بأفعالكم ومقتضى أقوالكم. أن وفد
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم، وروى أن سببها كلام أبي بكر رضي الله عنهما المتقدم في أمر وعمر الأقرع والقعقاع، والصحيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب في الجفاء وعلو الصوت والعنجهية، وكان رضي الله عنه في صوته جهارة، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج وهو كئيب حزين، حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فبعث فيه فآنسه وقال له: "امش في الأرض بسطا فإنك من [ ص: 7 ] أهل الجنة"، ثابت بن قيس بن شماس وقال له مرة: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتموت شهيدا" ، فعاش كذلك ثم قتل رضي الله عنه باليمامة يوم مسيلمة. وفي قراءة : "لا ترفعوا بأصواتكم" بزيادة الباء. وقوله تعالى: ابن مسعود كجهر بعضكم لبعض أي: كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ، قاله وغيره، فأمرهم الله تعالى بتوقيره وأن يدعوه بالنبوه والرسالة والكلام اللين، فتلك حالة الموقر، وكره العلماء ابن عباس وفي هذه كلها آثار. رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العالم وفي المساجد،
[ ص: 8 ] وقوله تعالى: "أن تحبط" مفعول من أجله، أي: مخافة أن تحبط، والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء، وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافا واحتقارا وجرأة فذلك كفر والحبط: معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال: أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ويحتمل أن يكون المعنى: أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة، وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة: "وأنت لا تشعر" لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا، وفي قراءة : "فتحبط أعمالكم" . عبد الله بن مسعود
ثم مدح تعالى الصنف المخالف لمن تقدم ذكره وهم الذين يغضون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وغض الصوت: خفضه وكسره، وكذلك البصر، ومنه قول جرير :
فغض الطرف إنك من نمير . . . . . . .. . . . . . .. . . . .
وروي أن أبا بكر رضي الله عنهما كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع وعمر رضي الله عنه بعد ذلك إلى استعادة [ ص: 9 ] اللفظ; لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه. و "امتحن" معناه: اختبر وطهر كما يمتحن الذهب بالنار، فيسرها وهيأها للتقوى، وقال عمر رضي الله عنه: امتحن للتقوى: أذهب عنها الشهوات. عمر بن الخطاب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
من غلب شهوته وغضبه فذلك الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة.