وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود
"كم" للتكثير، وهي خبرية، والمعنى: كثيرا أهلكنا قبلهم. و"القرن": الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمان، واختلف الناس في ذلك القدر، فقال [ ص: 54 ] الجمهور: مائة سنة، وقيل غير هذا، وقد تقدم القول فيه غير مرة، و"شدة البطش" هي بكثرة القوة والأموال والملك والصحة والأذهان إلى غير ذلك. وقرأ الجمهور من الناس: "فنقبوا" بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية، والمعنى: ولجوا البلاد من أنقابها، وفي الحديث: المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"، والمراد تطوفوا ومشوا طماعية في النجاة من الهلكة، ومنه قول الشاعر : "إن على أنقاب
وقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري:
نقبوا في البلاد من حذر المو ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ رضي الله عنهما، ابن عباس ، وابن يعمر ونصار بن يسار، : "فنقبوا" بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين، و: وأبو العالية هل من محيص توقيف وتقرير، أي: لا محيص، و"المحيص" موضع الحيص وهو الروغان والحياد، قال : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله متبعا مدركا، وفي صدر قتادة : "فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب" وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته: [ ص: 55 ] البخاري
إذا حاص الدليل رأيت منها جنوحا للطريق على اتساق
وقرأ -في رواية أبو عمرو عبيد عنه-: "فنقبوا" بفتح القاف وتخفيفها، وهي بمعنى التشديد، واللفظة أيضا قد تقال بمعنى البحث والطلب، تقول: نقب عن كذا أي استقصى عنه، ومنه "نقيب القوم" لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب.
وقوله تعالى: إن في ذلك لذكرى يعني إهلاك من مضى، و"الذكرى": التذكرة، و"القلب" عبارة عن العقل إذ هو محله، والمعنى: لمن كان له قلب واع ينتفع به، وقال الشبلي: معناه: قلب حاضر مع الله تعالى لا يغفل عنه طرفة عين، وقوله تعالى: أو ألقى السمع وهو شهيد معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة، وأنتبه في سماعها، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله تعالى: وألقيت عليك محبة مني ، أي: أثبتها عليك، وقال بعض الناس: قوله تعالى: "ألقى السمع" وقوله: "فضربنا على آذانهم"، وقوله: سقط في أيديهم ، هي مما قل استعمالها الآن وبعدت [ ص: 56 ] معانيه. وقول هذا القائل ضعيف، بل هي بينة المعاني، وقد مضت في موضعها، وقوله تعالى: "وهو شهيد" قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا متفكر في غير ما يسمع، وقال : هي إشارة إلى أهل الكتاب، فكأنه تعالى قال: إن هذه العبرة لتذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر، أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتاب التوراة وسائر كتب بني إسرائيل، فـ "شهيد" على التأويل الأول من المشاهدة، وعلى التأويل الثاني من الشهادة، وقرأ قتادة : "أو ألقى السمع"، قال السدي : أي: ألقي السمع منه، حكى ابن جني أن قراءة أبو عمرو الداني ذكرت السدي لعاصم فمقت وقال: أليس الله تعالى يقول: "يلقون السمع". السدي
وقوله تعالى: ولقد خلقنا السماوات والأرض الآية... خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا: إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت، فنزلت وما مسنا من لغوب ، واللغوب: الإعياء والنصب والسأم، يقال: لغب الرجل يلغب إذا أعيا، وقرأ السلمي ، : "لغوب" بفتح اللام. وطلحة
وتظاهرت الأحاديث بأن بدء خلق الأشياء كان يوم الأحد، وفي كتاب ، وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه أن ذلك كان يوم السبت، وعلى كل قول فأجمعوا على أن مسلم آدم عليه السلام خلق يوم الجمعة، فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم عليه [ ص: 57 ] السلام كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى ، وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة.
قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون قال بعض المفسرين: المراد أهل الكتاب لقولهم: ثم استراح يوم السبت، وهذه المقالة من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة.
وقال النظار من المفسرين: قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة، وعم بذلك جميع الأقوال الزائفة من قريش وغيرهم، وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال الآية منسوخة بآية السيف، و"سبح" معناه: صل بإجماع من المتأولين. وقوله تعالى: "بحمد ربك" الباء للاقتران، أي: سبح سبحة يكون معها حمد، ومثله: "تنبت بالدهن" على بعض الأقوال فيها، و "قبل طلوع الشمس" هي الصبح "وقبل الغروب" هي العصر، قاله ، قتادة ، والناس، وقال وابن زيد رضي الله عنهما: "قبل الغروب" الظهر والعصر، و"من الليل" هي صلاة العشاءين، وقال ابن عباس : هي العشاء فقط، وقال ابن زيد : هي صلاة الليل وقوله تعالى: "وأدبار السجود"، قال مجاهد ، عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو هريرة ، والحسن ، والشعبي وإبراهيم، ، ومجاهد : هي الركعتان بعد المغرب، وأسنده والأوزاعي ، عن الطبري رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل فقيل: هي الركعتان مع الفجر، وروي عن ابن عباس أن "أدبار السجود" الوتر، حكاه ابن عباس ، وقال الثعلبي ، ابن زيد أيضا وابن عباس : هي النوافل إثر الصلوات، وهذا جار مع لفظ الآية، وقال بعض العارفين: هي صلاة الليل، قال ومجاهد : وقال بعض العلماء في قوله: الثعلبي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر، "وقبل الغروب" الركعتان قبل المغرب، وقال بعض التابعين: رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة، وقال : [ ص: 58 ] ما أدركت أحدا يصلي الركعتين قبل المغرب إلا قتادة أنسا وأبا برزة. وقرأ ، ابن عباس ، وابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، وأبو جعفر وشيبة ، ، وعيسى وشبل، ، وطلحة :"وإدبار" بكسر الألف، وهو مصدر أضيف إليه وقت ثم حذف الوقت، كما قالوا: جئتك مقدم الحج وخفوق النجم ونحوه، وقرأ الباقون، والأعمش ، والحسن : "وأدبار" بفتح الهمزة، وهو جمع دبر كطنب وأطناب، أي: وفي أدبار السجود، أي في أعقابه، قال والأعرج أوس بن حجر:
على دبر الشهر الحرام فأرضنا وما حولها جدب سنين تلمع