للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم
هذه اللام في قوله: "للفقراء" متعلقة بمحذوف ، تقديره: الإنفاق أو الصدقة للفقراء.
وقال مجاهد، وغيرهما: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء والسدي، المهاجرين من قريش وغيرهم، ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم. [ ص: 88 ] ثم بين الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله: الذين أحصروا في سبيل الله والمعنى: حبسوا ومنعوا، وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار، حكاه وغيره. ابن سيده
وفسر هنا الإحصار بأنه بالعدو، وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار، وحصر بالعدو، وعلى هذا فسر السدي ابن زيد، ورجحه وقتادة، وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين، وقصد الجهاد، وخوف العدو، إذ أحاط بهم الكفر فصار خوف العدو عذرا أحصروا به. الطبري،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم، أي جعلتهم ذوي حصر كما قالوا: قبره أدخله في قبره، وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار المانعة تحصر بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وقوله: في سبيل الله يحتمل الجهاد، ويحتمل الدخول في الإسلام، واللفظ يتناولهما.
والضرب في الأرض: هو التصرف في التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد، وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة، فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يحسبهم الجاهل بباطن أحوالهم أغنياء.
[ ص: 89 ] والتعفف: تفعل بتاء مبالغة، من عف عن الشيء إذا أمسك عنه، وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسر وغيره. قتادة
وقرأ نافع، وأبو عمرو، "يحسبهم" بكسر السين، وكذلك هذا الفعل في كل القرآن، وقرأ والكسائي: ابن عامر، وعاصم، "يحسبهم" بفتح السين في كل القرآن، وهما لغتان في "يحسب" كعهد يعهد ويعهد، بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك، قال وحمزة: فتح السين في "يحسب" أقيس لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس. أبو علي:
و"من" في قوله: "من التعفف"، لابتداء الغاية، أي: من تعففهم ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء غنى مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: لا يسألون الناس إلحافا المعنى: لا يسألون البتة، وتحتمل الآية معنى آخر "من" فيه لبيان الجنس سنذكره بعد.
والسيما مقصورة: العلامة، وبعض العرب يقول: السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . له سيمياء لا تشق على البصر
واختلف المفسرون في تعيين هذه السيمياء التي يعرف بها هؤلاء المتعففون - فقال هي التخشع والتواضع، وقال مجاهد: السدي، هي جهد الحاجة وقضف [ ص: 90 ] الفقر في وجوههم، وقلة النعمة، وقال والربيع: هي رثة الحال. وقال قوم - وحكاه ابن زيد هي أثر السجود، وهذا أحسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين، لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا. مكي-:
والإلحاف والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم: هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وعمه بالتغطية، ومنه اللحاف، ومنه قول ابن أحمر:
يظل يحفهن بقفقفيه ... ويلحفهن هفافا ثخينا
يصف ذكر نعام يحضن بيضا، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك. وذهب الطبري، وغيرهما إلى أن المعنى: لا يسألون البتة والآية تحتمل المعنيين: نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون التعفف صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، [ ص: 91 ] وتكون "من" لابتداء الغاية ويكون قوله: والزجاج، لا يسألون الناس إلحافا لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف، بل أريد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: "هذا رجل خير لا يقتل المسلمين"، فقولهم: "خير" قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي ولو بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك: "لا يقتل المسلمين" على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية، مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه، وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون التعفف داخلا في المحسبة، أي أنهم لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، فـ "من" لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررا لهم حسب ما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي.
وقال رحمه الله: المعنى: لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف، وهذا كما قال الزجاج امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.
[ ص: 92 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن كان أراد لا يكون منهم سؤال البتة، فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد "لا"، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه. وإن كان أراد: لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية. الزجاج
وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله:
على لاحب لا يهتدى بمناره . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله الآخر: .
قف بالطلول التي لم يعفها القدم . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر:
ومن خفت من جوره في القضا ... ء فما خفت جورك يا عافية
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار وإن كان المنار موجودا. فلا [ ص: 93 ] ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفاء وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية.
ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار فإذا لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفاء، وليس ثم جور فإذا لا يكون خوف. وقوله تعالى: لا يسألون الناس إلحافا لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله: "إلحافا" جزءا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه.
ولو كان الكلام: "لا يلحفون الناس سؤالا" لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة. وكذلك لو كان بعد: "لا يسألون شيئا إذا عدم عدم السؤال" كأنك قلت: تكسبا أو نحوه - لصح الشبه، والله المستعان. وقوله تعالى: وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب .