فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون
هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة، ثم قال مؤنسا له عليه الصلاة والسلام: فما أنت بإنعام الله تعالى عليك و لطفه بك كاهن ولا مجنون، وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين، فنسبت [ ص: 96 ] محمدا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فنفى الله تعالى عنه ذلك.
قوله تعالى: أم يقولون شاعر الآية. روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائل منهم: تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك.
و"التربص": الانتظار، ومنه قول الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وأنشد : الطبري
. . . . . . . . . . . . . .. لعلها سيهلك عنها زوجها أو سيجنح
وقوله تعالى: "قل تربصوا" وعيد في صيغة أمر، و "المنون" من أسماء الموت، وبه فسر رضي الله عنهما، ومن أسماء الدهر، وبه فسر ابن عباس ، وقال مجاهد : المنون واحد لا جمع له، وقال الأصمعي : هو جمع لا واحد له. الأخفش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
و"الريب هنا: الحوادث والمصائب لأنها تريب من نزلت به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ابنته رضى الله تعالى عنها حين ذكر أن فاطمة رضي الله عنه يتزوج بنت عليا أبي جهل: بضعة مني، يريبني ما أرابها"، فاطمة يقال: أراب وراب، ومنه قول الشاعر: [ ص: 97 ] "إنما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . فقد رابني منها الغداة سفورها
وقول الآخر:
وقد رابني قولها يا هنا ه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتوعدهم بقوله تعالى: قل تربصوا فإني معكم من المتربصين .
وقوله تعالى: "بهذا" يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة "هو شاعر"، ويحتمل أن يشير [ ص: 98 ] إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام، و"الأحلام": العقول، و"أم" المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام، وقدرها بـ "بل"، والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر بـ "بل والهمزة" على حد قول مجاهد في قولهم: " إنها لإبل أم شاء"، ومنها ما هي معادلة، وذلك قوله تعالى: سيبويه أم هم قوم طاغون ، وقرأ : "بل هم قوم طاغون"، وهو معنى قراءة الناس إلا أن العبارة بـ "أم" خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ، وحكى مجاهد عن الثعلبي أنه قال: "ما في سورة [الطور] من استفهام كله استفهام وليست بعطف"، و"تقوله" معناه: "قال عن الغير: إنه قاله"، فهي عبارة عن كذب مخصوص. الخليل
ثم عجزهم تعالى بقوله: فليأتوا بحديث مثله والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز، واختلف الناس، هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال شذاذ يسمون أهل الصرفة: كانت قادرة وصرفت، وقال الجمهور: لم تكن قط قادرة، ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله; لأن البشر لا يفارقه النسيان والسهو والجهل، والله تعالى محيط علمه بكل شيء، فإذا ترتبت اللفظة في القرآن علم بالإحاطة التي يصلح أن تليها ويحسن معها المعنى، وذلك متعذر في البشر. والهاء في "مثله" فإنها -على هذا- عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أم خلقوا من غير شيء ، قال : معناه: أم خلقوا خلق الجماد من غير حي، فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه؟ وقال آخرون: معناه: أم خلقوا من غير علة ولا لغاية عقاب ولا ثواب فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون؟ وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة، أي لغير علة، ثم وقفهم تعالى على جهة التوبيخ على أنفسهم، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص تعالى من الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم تعالى عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين. الطبري
[ ص: 99 ]