كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم، وقوله تعالى: "وازدجر" إخبار من الله تعالى أنهم زجروا نوحا عليه السلام بالسب والنجه والتخويف، قاله وقرأ: ابن زيد لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ، وذهب إلى أن "وازدجر" [ ص: 142 ] من كلام قوم مجاهد نوح، كأنهم قالوا: "مجنون وازدجر"، والمعنى: استطير جنونا واستعر جنونا، وهذا قول فيه تعسف وتحكم، وقرأ ، نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، والأعرج : "أني" بفتح الألف، أي: بأني،كأن دعاءه كان هذا المعنى، وقرأ والحسن أيضا، عاصم وابن أبي إسحاق : "إني" بكسر الألف، كأن دعاءه كان هذا اللفظ، قال وعيسى : المعنى: قال إني، وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى: أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم فانتصر لي منهم بأن تهلكهم، ويحتمل أن يريد: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، ويؤيده قول سيبويه رضي الله عنهما: إن المراد بقوله: ابن عباس لمن كان كفر الله تعالى، فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام، وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى: إني قد غلبتني نفسي في إفراطي في الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت، والقول الأول هو الحق إن شاء الله تعالى، يدل على ذلك قوله تعالى: "ففتحنا" الآية، وذلك هو الانتصار من الكفار.
وقرأ جمهور القراء: "ففتحنا" بتخفيف التاء، وقرأ ، ابن عامر ، وأبو جعفر : "ففتحنا" بشدها على المبالغة، ورجحها والأعرج بقوله تعالى: أبو حاتم مفتحة لهم الأبواب . قال : يعني بالأبواب المجرة، وهي شرج السماء كشرج العيبة، وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة، فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء، وقال جمهور المفسرين: هو تشبيه ومجاز، لأن المطر كثر كأنه من أبواب، و"المنهمر": الشديد الوقوع الغزير، قال أبو حاتم امرؤ القيس:
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
[ ص: 143 ] وقرأ الجمهور: "وفجرنا" بشد الجيم، وقرأ وأصحابه، ابن مسعود وأبو حيوة، عن والمفضل بتخفيفها، وقرأ الجمهور: "فالتقى الماء" على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون، وقرأ عاصم ، علي بن أبي طالب والحسن ، وعاصم والجحدري: "فالتقى الماءان"، ويروى عن "فالتقى الماوان". الحسن:
وقوله تعالى: على أمر قد قدر قال فيه الجمهور: المعنى: على رتبة وحالة قد قدرت في الأول وقضيت، وقال جمهور من المتأولين: المعنى: على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، ورووا أن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا، وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعا أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات، ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحديد، وقرأ أبو حيوة: "قدر" بشد الدال.
و"ذات ألواح ودسر" هي السفينة، قيل: كانت ألواحها وخشبها من ساج. و"الدسر": المسامير، واحدها دسار، وهذا هو قول الجمهور، وهو عندي من الدفع المتتابع; لأن المسمار يدفع أبدا حتى يستوي، وقال الحسن، أيضا: الدسر مقادم السفينة لأنها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر: الدفع، وقال وابن عباس وغيره: الدسر: نطق السفينة، وقال أيضا: الدسر: هو عوارض السفينة، وقال أيضا: أضلاع السفينة، وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعبا. وجمهور الناس على أنها كانت كهيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر، وورد في بعض الكتب أنها كانت مربعة طويلة في السماء واسعة السفل ضيقة العلو، وكان أعلاها مفتوحا للهواء والتنفس، قالوا: لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء، ولم يكن طلب الجري [ ص: 144 ] وقصد المواضع المعينة، ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى، والله أعلم كيف كانت، والجميع محتمل. مجاهد
قوله تعالى: "بأعيننا"، قال الجمهور: معناه: بحفظنا وكفايتنا وتحت نظر منا لأهلها، فسمى هذه الأشياء أعينا تشبيها، إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه، وقيل: المراد من حفظها من الملائكة، سماهم عيونا، وقال : وقيل: إن قوله تعالى: "بأعيننا" يريد به العيون المتفجرة من الأرض، وهذا ضعيف. وقرأ الرماني أبو السمال: "بأعينا" مدغمة، وقرأ جمهور الناس: "كفر" بضم الكاف وكسر الفاء، واختلفوا في المعنى، فقال ، ابن عباس : يراد بها الله تعالى،كأنه قال: غضبا وانتصارا لله تعالى، أي: انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين، وقال ومجاهد : وقيل: "من"، يراد بها مكي نوح عليه السلام والمؤمنون; لأنهم كفروا من حيث كفر بهم، فجازاهم الله تعالى بالنجاة. وقرأ يزيد بن رومان، ، وعيسى : "كفر" بفتح الكاف والفاء. وقتادة
والضمير في "تركناها" قال : هو عائد على هذه الفعلة والقصة، وقال مكي بن أبي طالب ، قتادة ، وغيرهما: هو عائد على هذه السفينة، قالوا: وإن الله تعالى أرساها على والنقاش الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع هو، وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له "باقردى"، وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة، قال : وكم من سفينة كانت بعدها صارت رمادا.: و"مدكر" أصله "مذتكر"، أبدلوا من التاء ذالا ليناسب الذال في النطق، ثم أدغموا الدال في الدال، وهذه قراءة الناس، قال قتادة : رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، وقرأ أبو حاتم : "مذكر" بإدغام الثاني في الأول، قال قتادة : وذلك رديء، ويلزمه أن يقرأ: "واذكر بعد أمة"، و"وما تذخرون في بيوتكم". أبو حاتم
[ ص: 145 ] وقوله تعالى: فكيف كان عذابي ونذر توقيف لقريش، و"النذر" هنا جمع "نذير" المصدر، بمعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم؟.
و"يسرنا القرآن" معناه: سهلناه وقربناه، و "الذكر": الحفظ عن ظهر قلب، قال : لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن. ابن جبير
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعنى، فله لوطة بالقلوب وامتزاج بالعقول السليمة.
وقوله تعالى: فهل من مدكر استدعاء وحض على حفظه وذكره لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس، قال : معناه: هل من طالب علم فيعان عليه؟. مطرف
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
الآية تعديد نعمة في أن الله تبارك وتعالى يسر الهدى ولا بخل من قبله، فلله در من قبل واهتدى، وتقدم تعليل: "مدكر".