سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر
هذه عدة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن جمع قريش سيهزم نصرة له، والجمهور على أن الآية مكية، وروي عن رضي الله تعالى عنه أنه قال: عمر بن الخطاب بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرع وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر . كنت أقول في نفسي: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر مستشهدا بالآية.
وقال قوم: إن الآية نزلت يوم بدر، وذلك ضعيف، والصواب أن الوعد أنجز يوم بدر قال : قرأ بعض القراء: "سيهزم" بفتح الياء وكسر الزاي "الجمع" نصبا، [ ص: 154 ] قال أبو حاتم قرأ أبو عمرو الداني أبو حيوة: "سنهزم" بالنون وكسر الزاي "الجمع" بالنصب "وتولون" بالتاء من فوق.
ثم تركت هذه الأقوال وأضرب عنها تهمما بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتل، فقال تعالى: بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ، "أدهى" أفعل من الداهية وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء، و"أمر" من المرارة، واللفظة هاهنا مستعارة لأنها ليست فيما يذاق.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه، قال رضي الله عنهما: المعنى: في خسران وجنون، و"السعر" الجنون، وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار، وقال قوم: المراد بالمجرمين ابن عباس القدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست بقدر من الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهم المتوعدون بالسحب في جهنم، والسحب هو الجر، وفي قراءة رضي الله عنه: "إلى النار". ابن مسعود
وقوله تعالى: "فذوقوا" استعارة، والمعنى: يقال لهم: ذوقوا، على جهة التوبيخ.
واختلف الناس في قوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر فقرأ جمهور الناس: "إنا كل شيء" بالنصب، و قالوا: المعنى: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، وليست "خلقناه" في موضع الصفة لـ "شيء"، بل هو فعل دال على الفعل المضمر، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفة وقرأ أبو السمال -ورجحه أبو الفتح-: "إنا كل" بالرفع على الابتداء، والخبر "خلقناه بقدر"، قال : "هذا هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة". أبو حاتم
[ ص: 155 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع، والمعنى عندهم على نحو ما هو عند الأولين من أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق، و "خلقناه" -على هذا- ليست صفة لـ "شيء"، وهذا مذهب أهل السنة، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين.
وقالت القدرية، وهم الذين يقولون: لا قدر، والمرء وحده فاعل أفعاله، القراءة: "إنا كل شيء خلقناه" برفع "كل"، و"خلقناه" في موضع الصفة لـ "كل" ، أي: إن أمرنا وشأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر، أي: بمقدار وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية.
وقال رضي الله عنهما: إني أجد في كتاب الله تعالى قوما يسحبون في [ ص: 156 ] النار على وجوههم لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، يقولون: المرء يخلق أفعاله، وإني لا أراهم، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أبو هريرة خاصمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت هذه الآية، قال : فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه أم في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، سنيسره للعسرى". أبو عبد الرحمن السلمي وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك "القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصيب، ولا أنا منهم ولا هم مني".
وقوله تعالى: "إلا واحدة" أي: إلا قولة واحدة وهي "كن"، وقوله تعالى: "كلمح بالبصر" تفهيم للناس بأعجل ما يحسون، وفي أشياء من أمر الله تعالى أوحى من لمح البصر، و"الأشياع": الفرق المتشابهة في مذهب ودين، ونحوه، الأول شيعة للآخر، الآخر شيعة للأول.
ثم أخبر تعالى أن كل أفعال الأمم المهلكة مكتوبة محفوظة عليهم إلى يوم الحساب، قاله ، سطرت وأسطرت بمعنى، وروي عن ابن عباس شد الراء من "مستطر"، قال عاصم : وهذا لا يكون إلا عند الوقوف، لغة معروفة. أبو عمرو
وقرأ جمهور الناس: "ونهر" بفتح الهاء والنون على أنها اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أنه بمعنى سعة في الرزق والمنازل، ومنه قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من خلفها ما وراءها
[ ص: 157 ] فقوله: "أنهرت" معناه جعلت فتقها كنهر، وقرأ زهير الفرقبي، : "ونهر" بضم النون والهاء على أنه جمع نهار، إذ لا ليل في الجنة، وهذا سائغ في اللفظ قلق في المعنى، ويحتمل أن يكون جمع نهر، وقرأ والأعمش ، مجاهد وحميد، وأبو السمال، والفياض بن غزوان: "نهر" بسكون الهاء على الإفراد.
وقوله تعالى: في مقعد صدق يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب، أي: في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أن يكون من قولك: "عود صدق" أي: جيد، و"رجل صدق "أي: خير وذو خلال حسان ، وقرأ جمهور الناس: "في مقعد" على اسم الجنس، وقرأ عثمان البتي : "في مقاعد" على الجمع، و"المليك المقتدر" هو الله تبارك وتعالى.
كمل تفسير سورة القمر والحمد لله رب العالمين.