ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
"الثلة": الجماعة والفرقة، وهو تقع للقليل والكثير، واللفظ في هذا الوضع يعطي أن الجملة من الأولين أكثر من الجملة من الآخرين وهي التي عبر عنها بالقليل، واختلف المتأولون في معنى ذلك -فقال قوم- حكى قولهم -: المراد بذلك الأنبياء عليهم السلام لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عددا، وقال مكي وغيره: المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء عليهم السلام بجموعهم إلى أصحاب الحسن محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك أكثر عددا لا محالة، وإما أن يقرن أصحاب الأنبياء عليهم السلام ممن سبق في أثناء الأمم السالفة إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر. وروي أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم حزنوا لقلة سابقي هذه الأمة على هذا التأويل، فنزلت: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فرضوا، وروي [ ص: 193 ] عن رضي الله عنها أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: عائشة "الفرقتان في أمتي، فسابق أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل" .
وقرأ الجمهور: "سرر" بضم الراء، وقرأ أبو السمال: "سرر" بفتح الراء، و"الموضونة": المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض كحلق الدرع، فإن الدرع موضونة، ومنه قول الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحي عيرا فعيرا
وكذلك سقيفة الخوص ونحوه موضونة، ومنه وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون، فهو كقتيل وجريح، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
قال رضي الله عنهما: هذه السرر الموضونة هي مرمولة بالذهب، وقال ابن عباس : هي مشبكة بالدر والياقوت، و "متكئين" و "متقابلين"، حالان، وفيهما ضمير مرفوع، وفي مصحف عكرمة رضي الله عنه: "متكئين عليها ناعمين" . عبد الله بن مسعود
[ ص: 194 ] و"الولدان": صغار الخدم، عبارة عن أنهم صغار الأسنان. ووصفهم تعالى بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة كذلك; إشارة إلى أنهم في حال الولدان مخلدون لا تكبر لهم سن، وقال : لا يموتون، قال مجاهد : "مخلدون" معناه: مقرطون بالخلدات، وهي ضرب من الأقراط، والأول أصوب; لأن الفراء العرب تقول للذي كبر ولم يشب: إنه لمخلد.
و"الأكواب": ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم، قال رضي الله عنهما: هي جرار من فضة، وقال ابن عباس أبو صالح : مستديرة أفواهها، وقال قتادة : ليست لها عرى. و"الإبريق": ما له خرطوم، قال والضحاك : وأذن، وهو من أواني الخمر عند مجاهد العرب، ومنه قول : عدي بن زيد
وتداعوا إلى الصبوح فقامت قينة في يمينها إبريق
و"الكأس": الآنية المعدة للشرب بها، بشريطة أن يكون فيها خمر و نبيذ، أو بسبيل ذلك، ومتى كان فارغا فهو منتسب إلى جنسه زجاجا كان أو غيره، ولا يقال لآنية فيها ماء ولبن: كأس.
وقوله تعالى: "من معين" قال رضي الله عنهما: معناه: من خمر سائلة، فوزنها مفعول، أصلها معيون، وهذا تأويل ابن عباس ، وقوله تعالى: قتادة لا يصدعون عنها ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى: لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا، وقال قوم: معناه: لا يتفرقون عنها، بمعنى: لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق، وهذا كما قال: الحديث. "يتصدع السحاب عن المدينة"...
[ ص: 195 ] وقوله تعالى: "ولا ينزفون" قال ، مجاهد ، وقتادة ، وابن جبير : معناه: لا تذهب عقولهم سكرا، والنزيف: السكران، ومنه قول الشاعر: والضحاك
. . . . . . . . . .. . . شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقرأ ابن أبي إسحاق : "ولا ينزفون" بكسر الزاي وفتح الياء، من: "نزف البئر" إذا استقى ماءها، فهي بمعنى: تم خمرهم ونفدت، هكذا قال أبو الفتح. وحكاها عن أبو حاتم ابن أبي إسحاق ، والجحدري، ، والأعمش ، وطلحة ، وابن مسعود وأبي عبد الرحمن ، بضم الياء وكسر الزاي، قال: ومعناها: لا يفنى شرابهم، وعيسى والعرب تقول: "أنزف الرجل عبرته". وتقول أيضا: "أنزف" إذا سكر، ومنه قول الأبيرد:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
[ ص: 196 ] وعطف "الفاكهة" على "الكأس والأباريق".
قوله تعالى: "مما يشتهون"، روي فيه أن العبد يرى الطائر يطير فيشتهيه فينزل له كما اشتهاه، وربما أكل منه ألوانا بحسب تصرف شهوته إلى كثير مما روي في هذا المعنى.
وقرأ ، حمزة ، والكسائي عن والمفضل : "وحور عين" بالخفض، وهي قراءة عاصم الحسن، وأبي عبد الرحمن ، ، والأعمش وأبي القعقاع، . وقرأ وعمرو بن عبيد ، أبي بن كعب : "وحورا عينا" بالنصب، وقرأ الباقون من السبعة: "وحور عين" بالرفع، كل هذه القراءات محمولة الإعراب على المعنى لا على اللفظ، فالخفض كأن المعنى: قيل: تنعمون بهذا كله وبحور عين ،وكأن المعنى في قراءة النصب: وتعطون هذا كله وحورا عينا، وكأن المعنى في الرفع: لهم هذا كله وحور عين، ويجوز أن يعطف "وحور" على الضمير المستقر في "متكئين"، قال وابن مسعود : ولم يؤكد لكون طول الكلام بدلا من التوكيد، ويجوز أن يعطف على "الولدان" وإن كان طواف الحور يقلق، ويجوز أن يعطف على الضمير المقدر في قوله تعالى: "على سرر". وفي هذا كله نظر، وقد تقدم معنى "حور عين"، وقرأ أبو علي : "وحير عين" . إبراهيم النخعي
وخص "سبحانه" المكنون من اللؤلؤ لأنه أصفى لونا وأبعد عن الغير، رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: "صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي"، أم سلمة و "جزاء بما كانوا يعملون" أي: هذه الرتب والنعم هي بحسب أعمالهم; لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقسمة على قدر الأعمال، ونفس دخول الجنة هو برحمة الله تبارك وتعالى وفضله لا بعمل عامل، فأما هذا الفضل وأن دخولها ليس بعمل عامل ففيه حديث صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وسألت "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة".
[ ص: 197 ] ، و"اللغو": سقط القول من فحش وغيره، و"التأثيم" مصدر، بمعنى: لا يؤثم أحد هناك غيره ولا نفسه بقول كأن يسمع ويتألم بسماعه. و "قيلا" مستثنى، والاستثناء متصل، وقال قوم: هو منقطع، و"سلاما" نعت للقيل، كأنه تعالى قال: إلا قليلا سالما من هذه العيوب وغيرها، وقال أيضا: "سلاما" مصدر، وناصبه "قيلا"، كأنه تعالى ذكر أنهم يقول بعضهم لبعض: سلاما سلاما، وقال بعض النحاة: "سلاما" منتصب بفعل مضمر تقديره: أسلموا سلاما. أبو إسحاق الزجاج