فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين
اختلف الناس في "لا" من قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم - فقال بعض النحويين: هي زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروف، كقوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب ، وغير ذلك، وقال وبعض النحويين: هي نافية، كأنه تعالى يقول: فلا صحة لما يقوله الكفار، ثم [ ص: 209 ] ابتدأ تبارك وتعالى فقال: "أقسم"، وقال بعض المتأولين: هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة، وهي كاستفتاح كلام يشبه في القسم ألا في شائع الكلام، ومنه قول الشاعر: سعيد بن جبير
فلا وأبي. . . . . . . . . . . لا أخونها
المعنى: "فوأبي"، أعدائها، ولهذا نظائر، وقرأ الحسن والثقفي: "فلأ قسم" بغير ألف، قال أبو الفتح: التقدير: فلأنا أقسم.
وقرأ الجمهور من القراء: "بمواقع" على الجمع، وقرأ ، عمر بن الخطاب ، وابن مسعود -رضي الله عنهم- وأهل وابن عباس الكوفة: ، حمزة "بموقع" على الإفراد، وهو مراد به الجمع، ونظير هذا كثير، ومنه قوله تعالى: والكسائي إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، جمع من حيث لكل حمار صوت مختص، وأفرد من حيث الأصوات كلها نوع.
واختلف الناس في "النجوم" هنا- فقال ، ابن عباس ، وعكرمة ، وغيرهم: هي نجوم القرآن التي نزلت على ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه روي أن القرآن نزل من عند الله عز وجل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا- وقيل: إلى البيت المعمور - جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم نجوما مقطعة في مدة من عشرين سنة، ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله سبحانه: إنه لقرآن كريم ، وذلك أن ذكره لم يتقدم إلا على هذا التأويل، ومن لا يتأول هذا التأويل يقول: إن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى، كقوله تعالى: حتى توارت بالحجاب ، و كل من عليها فان ، وغير ذلك. وقال جمهور كثير من المفسرين: النجوم هنا [ ص: 210 ] الكواكب المعروفة، واختلف في موقعها، فقال مجاهد : هي مواقعها عند غروبها وطلوعها، وقال وأبو عبيدة : مواقعها هي مواضعها من السماء، وقيل: مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت، وقال قتادة مواقعها عند انكدار النجوم. الحسن:
وقوله تعالى: "وإنه لقسم" تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله تعالى: لو تعلمون ، وقد قال قوم: إن قوله تعالى: "وإنه لقسم" اعتراض، وإن "لو تعلمون" اعتراض في اعتراض، والتحرير هو الذي ذكرناه، وقوله تعالى: "إنه لقرآن" هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم على معنى إثبات صفات المدح له ودفع صفات الحطيطة عنه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: في كتاب مكنون بعد اتفاقهم على أن "المكنون": المصون، فقال ، ابن عباس : أراد الكتاب الذي في السماء، وقال ومجاهد : أراد التوراة والإنجيل، كأنه تعالى قال: إنه لكتاب كريم ذكر كرمه وشرفه في كتاب مكنون، فمعنى الآية -على هذا- الاستشهاد بالكتب المنزلة، وهذا كقوله عز وجل: عكرمة إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، وقال بعض المتأولين: أراد مصاحف المسلمين، وكانت يوم نزلت الآية لم تكن، فهي -على هذا- إخبار بغيب، وكذلك هو في كتاب مصون إلى يوم القيامة، ويؤيد هذا لفظة "المس" فإنها تشير إلى المصاحف، و هي مستعارة من مس الملائكة.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون وفي حكمه- فقال بعض من قال إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء، قال: المطهرون هنا: الملائكة، قال : فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق، قال قتادة : المطهرون: الملائكة والأنبياء عليهم السلام ومن لا ذنب له، وليس في الآية -على هذا القول- حكم الطبري لسائر بني مس المصحف آدم، ومن قال بأنها مصاحف المسلمين قال: إن قوله تعالى: "لا يمسه" إخبار مضمنه النهي، وضمة السين -على هذا- ضمة إعراب وقال بعض هذه الفرقة: الكلام نهي، وضمة السين ضمة بناء، قال جميعهم: فلا يمس المصحف من بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر، قال : [ ص: 211 ] لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة، وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لعمرو بن حزم: ، وقد رخص "ولا يمس القرآن إلا الطاهر" وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل، غلاف ونحوه، ورخص بعض العلماء في مسه في الحدث الأصغر وفي قراءته عن ظهر قلب، منهم أبو حنيفة ابن عباس وعامر ، ولا سيما للمعلم والصبيان، وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته، وهذا الترخيص كله إنما هو على القول الذي ذكرناه من أن "المطهرين" هم الملائكة، أو على مراعاة لفظ المس، فقد قال الشعبي رضي الله عنه لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن. وقرأ جمهور الناس: "المطهرون" بفتح الطاء والهاء المشددة. وقرأ سلمان ، نافع -بخلاف عنهما-: "المطهرون" بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، وهي قراءة وأبو عمرو . وقرأ عيسى الثقفي : "المطهرون" بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها، على معنى الذين يطهرون أنفسهم، ورويت عنه بشد الطاء والهاء، وقرأ سلمان الفارسي وعبد الله بن الحسن، عون ، -بخلاف عنه-: "المطهرون" بمعنى: المتطهرين، والقول بأن "لا يمسه" نهي، قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبرا فهو في موضع الصفة، وقوله تعالى بعد ذلك: "تنزيل" صفة أيضا، فإذ جعلناه نهيا جاء معنى أجنبيا معترضا بين الصفات، وذلك لا يحسن في رصف الكلام فتدبره، وفي حرف وسلمان الفارسي رضي الله عنه: "ما يمسه" وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه: حقه وقدره أن ألا يمسه إلا طاهر. ابن مسعود
وقوله تعالى: أفبهذا الحديث أنتم مدهنون مخاطبة للكفار، و"الحديث" المشار إليه هو القرآن المتضمن البعث، وإن الله تعالى هو خالق الكل، وإن ابن آدم مصرف بقدره وقضائه، وغير ذلك، و"مدهنون" معناه: يلاين بعضكم بعضا ويتبعه في الكفر، مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه، وقال أبو قيس بن الأسلت:
الحزم والقوة خير من الـ إدهان والفهة والهاع
[ ص: 212 ] وقال رضي الله عنهما: هو المهاودة فيما لا يحل، والمداراة هي المهاودة فيما يحل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "مدهنون": مكذبون. ابن عباس
قوله تعالى: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي نزله الله تعالى رزقا للعباد: هذا بنوء كذا وكذا وهذا بنوء الأسد، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك، والمعنى: وتجعلون شكر رزقكم، كما تقول لرجل: جعلت يا فلان إحساني إليك أن سببتني، فالمعنى: جعلت شكر إحساني، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان؟ بمعنى: ما شكره؟ وكان رضي الله عنه يقرؤها: "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون"، وكذلك قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن عباس رضي الله عنهما ضم التاء وفتح الكاف، ابن عباس رضي الله عنه فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال، ومن هذا المعنى قول الشاعر: وعلي
وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين
وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركا فأنشأ به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقا للعباد، فهذا معنى قوله تعالى: أنكم تكذبون ، أي: بهذا الخبر، وقرأ في رواية عاصم عنه: "تكذبون" بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الذال كقراءة المفضل رضي الله عنه، وكذبهم في مقالهم بين [ ص: 213 ] لأنهم يقولون: هذا بنوء كذا، وذلك كذب منهم وتخرص. وذكر علي بن أبي طالب الطبري أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع رجلا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال له: "كذبت بل هو رزق الله"، والمنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيرا في المطر، وأما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة فقد قال عمر رضي الله عنهما وهما في الاستسقاء: يا للعباس عباس، يا عم النبي صلى الله عليه وسلم: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال رضي الله عنه: العلماء يقولون إنها تعترض الأفق بعد سقوطها سبعا، قال العباس : فما مضت سبع حتى مطروا. ابن المسيب
وقوله تعالى: فلولا إذا بلغت الحلقوم توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله تبارك وتعالى مالك كل شيء، والضمير في "بلغت الحلقوم" لنفس الإنسان، والمعنى يقتضيها وإن لم يتقدم لها ذكر، "والحلقوم" مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزاع المرء للموت. وقوله تعالى: "أنتم" إشارة إلى جميع البشر، وهذا من الاقتضاب، كقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم . وقرأ : "حينئذ" بكسر النون، و"تنظرون" معناه: إلى المنازع في الموت. وقوله تعالى: عيسى بن عمر ونحن أقرب إليه منكم يحتمل أن يريد ملائكته ورسله، ويحتمل أن يريد: بقدرتنا وغلبتنا، فعلى الاحتمال الأول يجيء قوله تعالى: ولكن لا تبصرون من النظر بالعين، وعلى التأويل الثاني يجيء من النظر بالقلب. وقال عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني.
ثم عاد التوقيف والتقرير ثانية بلفظ التحضيض، و"المدين": المملوك، هذا أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا، ومن عبر عنها بالمجازى أو المحاسب فذلك هنا قلق، والمملوك يقلب كيف يشاء المالك، ومن هذا الملك قول : الأخطل
[ ص: 214 ]
ربت فربى في حجرها ابن مدينة تراه على مسحاته يتركل
أراد: ابن أمة مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى هذا البيت: أراد أكارا حضريا لأن الأعراب في البادية لا يعرفون الفلاحة وعمل الكرم، فنسبه إلى المدينة لما كان من أهلها، فمعنى الآية: فلولا ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن كنتم غير مملوكين ولا مقهورين، ودين الملك حكمه وسلطانه، وقد نحا إلى هذا المعنى ، وذكره مستوعبا الفراء . وقوله تعالى: "ترجعونها" سدت مسد الأجوبة والبيانات التي تقتضيها التخصيصات، وإذا من قوله تعالى: "فلولا إذا" و"إن" المتكررة، وحمل بعض القول بعضا إيجازا واقتضابا. النقاش