آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
سبب هذه الآية أنه لما أنزلت: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا، [ ص: 136 ] فرجعوا إلى التضرع والاستكانة - مدحهم الله - وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح، والثناء، ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك: من ذمهم، وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء، إذ قالوا سمعنا وعصينا - وهذه ثمرة العصيان، والتمرد على الله، أعاذنا الله من نقمته. ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى،
و"آمن" معناه: صدق و"الرسول": محمد صلى الله عليه وسلم، و"ما أنزل إليه من ربه" هو القرآن، وسائر ما أوحي إليه -من جملة ذلك هذه الآية التي تأولوها شديدة الحكم- ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما نزلت عليه - قال: "ويحق له أن يؤمن"، وقرأ "وآمن المؤمنون" ، وكل لفظة تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة، والقرينة تبين ذلك في كل كلام، ولما وردت هنا بعد قوله: "والمؤمنون" دل ذلك على إحاطتها بمن ذكر. ابن مسعود
والإيمان بالله: هو التصديق به، وبصفاته، ورفض الأصنام وكل معبود سواه.
والإيمان بملائكته: هو اعتقاد وجودهم وأنهم عباد لله ورفض معتقدات الجاهلية فيهم. والإيمان بكتبه: هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما أخبر هو به.
وقرأ ابن كثير، ونافع، - في رواية وعاصم - أبي بكر "وكتبه" على الجمع، وقرؤوا في "التحريم": و "كتابه" على التوحيد، وقرأ وابن عامر: ها هنا، وفي التحريم: "وكتبه" على الجمع، وقرأ أبو عمرو حمزة "وكتابه" على التوحيد فيهما، وروى والكسائي: حفص، عن هاهنا وفي التحريم: "وكتبه" مثل عاصم وروى أبي عمرو. خارجة عن مثل ذلك، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن جمع أراد جمع [ ص: 137 ] كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب كان نزوله من عند الله تعالى، هذا قول بعضهم، وقد وجهه نافع وهو كما قالوا: نسج اليمن، وقال أبو علي، في صدر كلامه: أما الإفراد في قول من قرأ: "وكتابه" فليس كما تفرد المصادر وإن أريد بها الكثير، كقوله تعالى: أبو علي وادعوا ثبورا كثيرا ونحو ذلك. ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة كقولهم: كثر الدينار والدرهم، ونحو ذلك، فإن قلت: هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة، وهذه مضافة، قيل: فقد جاء في المضاف ما يعنى به الكثرة، ففي التنزيل: وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها وفي الحديث: فهذا يراد به الكثيركما يراد بما فيه لام التعريف. ومنه قول "منعت العراق درهمها وقفيزها" ابن الرقاع:
يدع الحي بالعشي غراثا ... وهم عن رغيفهم أغنياء
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة. وقراءة الجماعة: "ورسله" بضم السين، وكذلك: "رسلنا ورسلكم ورسلك" إلا فروي عنه تخفيف "رسلنا ورسلكم"، وروي عنه في "رسلك" التثقيل والتخفيف، قال أبا عمرو من قرأ "على رسلك" بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما يخفف في الآحاد مثل: عنق وطنب، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في الجمع الذي هو أثقل. أبو علي:
[ ص: 138 ] وقرأ "وكتبه ورسله" بسكون التاء والسين، وقرأ يحيى بن يعمر: "وكتابه ولقائه ورسله" ، وقرأ جمهور الناس: "لا نفرق" بالنون، والمعنى: يقولون: "لا نفرق"، وقرأ ابن مسعود: سعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، وأبو زرعة بن عمر بن جرير، "لا يفرق" بالياء، وهذا على لفظ كل، قال ويعقوب: هارون: وهي في حرف "لا يفرقون" بالياء، ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. ابن مسعود:
وقوله تعالى: وقالوا سمعنا وأطعنا مدح يقتضي الحض على هذه المقالة، وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة: قبول الأوامر.
و"غفرانك" مصدر كالكفران والخسران - ونصبه على جهة نصب المصادر، والعامل فيه فعل مقدر. قال تقديره: اغفر غفرانك. وقال غيره: نطلب أو نسأل غفرانك، الزجاج وإليك المصير إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - قال له جبريل: يا محمد: إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل إلى آخر السورة.