تفسير سورة الجن
وهي مكية بإجماع من المفسرين.
قوله عز وجل:
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا
قرأ جمهور الناس "قل أوحي" من "أوحى يوحي"، وقرأ أبو إياس جؤية بن عائذ: "قل وحي" من "وحى وأوحى " و"أوحى" بمعنى واحد، وقال العجاج :
وحى لها القرار فاستقرت
وقرأ أيضا جؤية فيما روى عنه -: "قل أحي" أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة، وغير ذلك، وكذلك قرأ الكسائي ، وحكى ابن أبي عبلة عن الطبري أنه كان يكسر كل ألف في السورة من "أن" و"إنه" إلا قوله تعالى: عاصم وأن المساجد لله ، وحكي عن أنه كان يكسر من أولها إلى قوله تعالى: أبي عمرو وأن لو [ ص: 425 ] استقاموا فإنه كان يفتح هذه وما بعدها إلى آخر السورة، فعلى ما حكي يلزم أن تكون الألف مكسورة في قوله تعالى "إنه استمع" ، وليس ما ذكر بثابت. وذكر أن أبو علي الفارسي ، ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك، أنه استمع ، وأن لو استقاموا ، وأن المساجد لله ، وأنه لما قام -وأن نافعا وعاصما -في رواية أبي بكر - وافقا في الثلاثة وكسرا والمفضل وأنه لما قام مع سائر ما في السورة، وذكر أن ابن عامر وحمزة كانوا يقرءون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء، وكذلك والكسائي حفص عن ، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من "أنه استمع"، و"أن لو استقاموا"، "وأن المساجد"، وذكر عاصم عن الزهراوي أنه كان يفتح الألف في السورة كلها. علقمة
واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافا كثيرا يطول حصره وتقصي معانيه، قال : أما الفتح فعلى "أوحي" فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله، وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول. أبو حاتم
وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ، وقد تقدم قصصهم في سورة [الأحقاف] في قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ، وكان سبب ذلك حراسة السماء من استراق السمع.
وقول الجن: "إنا سمعنا" الآيات هو خطاب منهم لقومهم الذين تولوا إليهم منذرين، و قرآنا عجبا معناه: ذو عجب; لأن العجب يقع من سامع القرآن لبراعته [ ص: 426 ] وفصاحته ومضمناته، وليس نفس القرآن هو العجب، وقرأ جمهور الناس: "إلى الرشد" بضم الراء وسكون الشين، وقرأ : "إلى الرشد" بفتح الراء والشين، ومن كسر الهمزة من قوله تعالى "وإنه تعالى" فعلى القطع، وتعطف الجملة على قولهم: "إنا سمعنا"، ومن فتح الألف من قوله تعالى: "وأنه تعالى" فقد اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هي عطف على "أنه استمع"، فيجيء على هذا قوله تعالى: "وأنه تعالى" مما أمر أن يقول إنه أوحي إليه، وليس يكون من كلام الجن، وفي هذا قلق، وقال بعضهم: بل هي عطف على الضمير في "به"، فكأنهم يقولون فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وهذا القول أبين في المعنى لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض، وذلك لا يحسن. عيسى الثقفي
وقرأ جمهور الناس: "جد ربنا" بفتح الجيم وإضافته إلى "الرب" تعالى، وقال جمهور المفسرين: معناه: عظمته، وروي عن أنه قال: كان الرجل إذا قرأ [البقرة وآل عمران ] جد في أعيننا، أي: عظم، وقال أنس ، أنس بن مالك : جد ربنا: غناه، فهذا هو من الجد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: والحسن وقال "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" : ذكره، وقال بعضهم: جلاله، وقال مجاهد : قدره وأمره، وهذا كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان القاهر والطبقات العلية والعظمة، ومن هذا قال اليهودي حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس المدينة: "يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون" أي: حظكم من الخيرات وبختكم، وقال ، علي بن الحسين وأبو جعفر الباقر، وابنه جعفر ، : ليس لله تعالى جد، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن جعلوا الله جدا، أي أبا [ ص: 427 ] أب، قال كثير من المفسرين: هذا قول ضعيف، وقولهم: والربيع بن أنس ولن نشرك بربنا أحدا يدفعه، وكونهم على شريعة متقدمة فيما روى- وفهمهم للقرآن، وقرأ محمد بن السميفع اليماني: "جدى ربنا" وهو الجدوى والنفع، وقرأ : "جد ربنا" بفتح الجيم وضم الدال وتنوينها ورفع الرب، كأنهم يقولون: تعالى عظيم هو ربنا، و"ربنا" بدل، والجد: العظيم في اللغة، وقرأ عكرمة حميد بن قيس: "جد ربنا" بضم الجيم، ومعناه: العظيم، حكاه وأضافه إلى "الرب" فكأنه قال: "عظيم ربنا"، وهذه إضافة تجريد، يرفع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما تقول: "جاءني كريم زيد" تريد: زيد الكريم، ويجري مجرى هذا عند بعضهم قول سيبويه : المتنبي
. . . . . . . . . . . عظيم الملك في المقل
أراد: الملك العظيم، قال بعض النحاة: وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير، وقرأ أيضا: "جدا ربنا" بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع "الرب" نصب "جدا" على التمييز كما تقول "تفقأت شحما وتصببت عرقا"، وقرأ عكرمة : "جدا ربنا" بكسر الجيم وشد الدال فنصب "جدا" على الحال، ومعناه: حقيقة ومتمكنا، وهذا معنى غير الأول، وقرأ قتادة : "تعالى ذكر ربنا"، وروي عنه " جلال ربنا". أبو الدرداء
قوله تعالى: وأنه كان يقول لا خلاف أن هذا قول الجن، وكسر الألف فيه [ ص: 428 ] أبين وفتحها لا وجه له إلا اتباع العطف على الضمير، كأنهم قالوا: وآمنا الآن بأن سفيهنا كان قوله على الله شططا، والسفيه المذكور قال جمهور من المفسرين: هو إبليس لعنه الله، وقال آخرون: هو اسم جنس لكل سفيه منهم، ولا محالة أن إبليس صدر في السفهاء، وهذا القول أحسن، و"الشطط": التعدي وتجاوز الحد بقول أو بفعل، ومنه قول الأعشى:
أتنتهون؟ ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقوله تعالى: "وأنا ظننا" هو كلام أولئك النفر من الجن، لا يحتمل غير ذلك، وكسر الألف فيه أبين، والمعنى: إنا كنا نظن قبل إيماننا أن الأقوال التي كنا نسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب; لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله تعالى ولا يرضون ذلك، وقرأ جمهور الناس: "تقول" بالتاء وضم القاف مخففة، وقرأ الحسن، والجحدري، وابن أبي بكرة ، "تقول" بفتح التاء والقاف والواو مشددة، والتقول خاص بالكذب، والقول عام له وللصدق ولكن قولهم: "كذبا" يرد القول هنا إلى معنى التقول. ويعقوب: