إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
الإشارة بـ "هذه" يحتمل أن تكون لما ذكر من الأنكال والجحيم والأخذ الوبيل [ ص: 447 ] ونحوه، ويحتمل أن تكون إلى السورة بأجمعها، ويحتمل أن تكون إلى القرآن بمعنى أن الأقوال المنصوبة فيه تذكرة، والتذكرة مصدر كالذكر، وقوله تعالى: "فمن شاء" الآية ليس معناه إباحة الأمر وضده، بل يتضمن معنى الوعيد والوعد، و"السبيل" هنا سبيل الخير والطاعة.
وقوله تعالى: إن ربك يعلم الآية، نزلت تخفيفا لما كان استمر استعماله من أمر قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه، ومعنى الآية: أن الله يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياما مختلفا ، مرة يكثر ومرة يقل، ومرة أدنى من الثلثين ومرة أدنى من الثلث، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمان مع عزر النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، وأما البشر فلا يحصي ذلك، فتاب الله عليهم، أي: رجع بهم من الثقل إلى الخفة، وأمرهم بقراءة ما تيسر منه، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا: "تحصوه": تحفظوه، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ: "ونصفه وثلث" بالخفض عطفا على "الثلثين"، وهي قراءة ، أبي عمرو ، ونافع ، وأما من قرأ "ونصفه وثلثه" بالنصب عطفا على "أدنى"، وهي قراءة باقي السبعة، فالمعنى عنده آخر، وذلك أن الله تعالى قد قدر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله سبحانه: وابن عامر نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ، فلم يبق إلا أن يكون قوله تعالى: لن تحصوه فتاب "بمعنى": لن تطيقوا قيامه لكثرته وشدته، فخفف الله عنهم فضلا منه لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن ، فإنهما قالا: "تحصوه" تطيعوه، وقرأ جمهور القراء والناس "وثلثه" بضم اللام، وقرأ وابن جبير في رواية ابن كثير شبل عنه: "وثلثه" بسكون اللام.
وقوله تعالى: فاقرءوا ما تيسر من القرآن إباحة، هذا قول الجمهور، وقال وجماعة: هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية، وقال ابن جبير الحسن : وابن سيرين فرض، ولو قدر حلب شاة، إلا أن قيام الليل قال: من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن، واستحسن هذا جماعة من العلماء، قال بعضهم: والركعتان بعد العتمة مع الوتر تدخلان في حكم هذا الأمر وامتثاله، ومن زاد زاده الله تعالى ثوابا. الحسن
و"إن" في قوله تعالى: "علم أن" مخففة من الثقيلة، والتقدير أنه يكون، فجاءت [ ص: 448 ] السين عوضا من المحذوف، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن:
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
و"الضرب في الأرض" هو السفر للتجارة، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط، فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل، وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو، فخفف عنهم القيام لهذا، وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض للتجارة وسوق لها مع سفر الجهاد، وقال رضي الله عنهما: أحب الموت إلي بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله. عبد الله بن عمر
ثم كرر الله تعالى الأمر بقراءة ما تيسر منه تأكيدا، والصلاة والزكاة هنا المفروضتان، فمن قال إن غير واجب قال: معنى الآية: خذوا من هذا النفل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم، ومن قال إن شيئا من القيام واجب قال: قرنه الله بالفرائض لأنه فرض. القيام بالليل
وإقراض الله تعالى هو استلاف العمل الصالح عنده، وقرأ جمهور الناس "هو [ ص: 449 ] خيرا" على أن يكون "هو" فصلا، وقرأ محمد بن السميفع، وأبو السمال: "هو خير" على أن يكون "هو" ابتداء، و"خير" خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني لـ "تجدوه".
ثم أمر الله تعالى بالاستغفار، وأوجب لنفسه صفة الغفران، لا إله غيره، قال بعض العلماء: فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثا بعقب السلام ويأثر في ذلك حديثا، فكأن هذا الاستغفار من النقص وتقلب الفكر أثناء الصلاة، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح.
كمل تفسير سورة [المزمل] والحمد لله رب العالمين