يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا
وصف الله تعالى حال الأبرار بأنهم كانوا يوفون بالنذر، أي بكل ما نذروه وأعطوا به عهدا، يقال: وفى الرجل وأوفى، واليوم المشار إليه يوم القيامة، و"مستطيرا" معناه: متصلا شائعا كاستطارة الفجر والصدع في الزجاجة، وبه شبه في القلب، ومن ذلك قول الأعشى:
فبانت وقد أورثت في الفؤا د صدعا- على نأيها مستطيرا
[ ص: 490 ] وقول : ذي الرمة
أراد الطاعنون ليحزنوني فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
وقوله تعالى: "على حبه" يحتمل أن يعود الضمير على "الطعام"، أي: وهو محبوب للفاقة والحاجة، وهذا قول ابن عباس ، ويحتمل أن يعود على الله تعالى، أي: لوجهه وابتغاء مرضاته، قاله ومجاهد أبو سليمان الدراني، والأول أمدح لهم لأن فيه الإيثار على النفس، وعلى الاحتمال الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر، وقال الحسن بن الفضل: الضمير عائد على الإطعام، أي محقين في فعلهم ذلك، لا رياء فيه ولا تكلف. و"المسكين": الطواف المنكشف في السؤال، و"اليتيم": الصبي الذي لا أب له من الناس، والذي لا أم له من البهائم، وهي صفة قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: و"الأسير" معروف، فقال "لا يتم بعد حلم"، : أراد أسرى الكفار وإن كانوا على غير الإسلام، قال قتادة ما كان أسراهم إلا مشركين، لأن كل كبد رطبة أجرا وقال بعض العلماء: هذا مما نسخ بآية السيف، وإما أنه محكم ليحفظ حياة الأسير إلى أن يرى الإمام فيه رأيه، وقال الحسن: ، مجاهد ، وابن جبير : أراد المسجونين من الناس، ولهذا يحض على صدقة السجن، فهذا تشبيه، ومن قول وعطاء رضي الله عنه: "لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول" وروى عمر بن الخطاب الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الأسير هنا بالمملوك المسجون، وقال: أراد أسرى المسلمين الذين تركوا في [ ص: 491 ] بلاد الحرب رهائن وخرجوا في طلب الفداء، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير هنا المرأة، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى: "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم"، إنما نطعمكم لوجه الله المعنى: يقولون لهم عند الإطعام، وهذا إما أن يكون المطعم يقول ذلك نصا، فحكي ذلك، وإما أن يكون ذلك مما يقال في الأنفس وبالنية فمدح بذلك، وهذا تأويل ابن مجاهد . وقرأ وابن جبير في رواية أبو عمرو ابن عياش بجزم الميم من "نطعمكم"، قال : أسكن تخفيفا، و"الشكور" مصدر كالشكر، ووصف اليوم بالعبوس هو على التجوز، كما تقول: "ليل نائم" أي فيه نوم، و"القمطرير" والقماطر هو في معنى العبوس والاربداد، يقال: "اقمطر الرجل" إذا جمع ما بين عينيه غضبا، ومنه قول الشاعر : أبو علي
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر
[ ص: 492 ] وقال الآخر:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال رضي الله عنهما: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه مثل القطران، وعبر ابن عباس عن القمطرير بالطويل، وعبر عنه ابن عباس بالشديد، وذلك كله قريب في المعنى. ابن الكلبي
وقرأ الجمهور "فوقاهم" بتخفيف القاف، وقرأ "فوقاهم" بشد القاف، و"النضرة" حال البشرة، وذلك لا يكون إلا مع فرح النفس وقرة العين، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع رضي الله عنه: "وجازاهم" بألف، وقوله تعالى: "بما صبروا" عام عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، ففي هذا يدخل كل ما خصص الناس من صوم ونحوه، و"متكئين" حال من الضمير المنصوب في "جزاهم" وهو الهاء والميم، وقرأ علي بن أبي طالب أبو جعفر وشيبة : "متكين" بغير همز، و"الأرائك": السرر المستورة بالحجال، وهذا شرط لبعض اللغويين، وقال بعض اللغويين: كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو فهو أريكة وإن لم يكن في حجلة. وقوله تعالى: "لا يرون" الآية عبارة عن اعتدال مس هوائها، وذهاب ضرورتي الحر والقر عنها، وكون هوائها سجسجا كما في الحديث المأثور، ومس الشمس وهو أشد الحر، والزمهرير: هو أشد البرد، وقال الزمهرير بلغة ثعلب: طيء القمر.