ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا
اختلف النحويون في إعراب قوله تعالى: "ودانية"، فقال وغيره: هو حال عطفا على "متكئين" ، وقال أيضا: يجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى: وجزاهم جنة دانية، وقرأ جمهور الناس "دانية"، وقرأ الزجاج "ودانيا عليهم"، وقرأ الأعمش أبو حيوة: "ودانية" بالرفع، وقرأ : "ودان"، فهو مفرد مرفوع في الإعراب، ودنو الظلال بتوسط أنعم لها لأن الشيء المظل إذا بعد فتر ظله لا سيما من الشجر. و"التذليل" أن تطيب الثمرة فتتدلى وتنعكس نحو الأرض، والتذليل في الجنة هو بحسب إرادة ساكنيها، قال أبي بن كعب ، قتادة وسفيان : إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا فكذلك. وإن كان مضطجعا فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، ومن اللفظة قول ومجاهد امرئ القيس:
. . . . . . . . . . . كأنبوب السقي المذلل
ومنه قول الأنصاري: "والنخل قد ذللت فهي مطوقة بثمرها"، و"القطوف" جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوهما.
و"الآنية" جمع إناء، و"الكوب" ما لا عروة له ولا أذن من الأواني، وهي معروفة [ ص: 494 ] الشكل في تلك البلاد، وهو الذي تقول له العامة "القب"، لكنها تسمي ذلك ما له عروة ، وذلك خطأ أيضا، وقال : الكوب القدح، و"القوارير" الزجاج . واختلف القراء، فقرأ قتادة ، نافع والكسائي وأبو بكر عن : "قواريرا، قواريرا" بالإجراء فيهما على ما قد تقدم في "سلاسلا"، وقرأ عاصم ، ابن عامر : "قواريرا، قواريرا" بترك الإجراء فيهما، وقرأ وحمزة بالإجراء في الأول وتركه في الثاني، وقرأ ابن كثير إذا وقف في الأول بألف دون تنوين، وبترك الإجراء في الثاني. وقوله تعالى: أبو عمرو من فضة يقتضي أنها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة، وقال : جعلها من فضة لصفائها وملازمتها لتلك الصفة، وليست من فضة في حقيق أمرها، وإنما هذا كقول الشاعر : أبو علي
ألا أصبحت أسماء جاذمة الوصل وضنت علينا والضنين من البخل
وقوله تعالى: "قدروها" يحتمل أن يكون الضمير للملائكة، ويحتمل أن يكون للطائفين، ويحتمل أن يكون للمنعمين، والتقدير إما أن يكون على قدر الأكف، قاله أو على قدر الري، قاله الربيع، ، وهذا كله على قراءة من قرأ: "قدروها" بفتح القاف، وقرأ مجاهد ، ابن أبزى وعلي والجحدري، ، وابن عباس ، والشعبي : "قدروها" بضم القاف وكسر الدال، قال وقتادة : كأن اللفظ "قدروا عليها"، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله تعالى: أبو علي ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ، ومثل قول العرب: "إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء"، حكاه . أبو علي
[ ص: 495 ] وكون الزنجبيل مزاجا هو على ما ذكرناه في العرف ولذع اللسان، وذلك من لذات المشروب، والزنجبيل طيب حار، وقال الشاعر :
كأن جنيا من الزنجبيـ ـل بات بفيها وأريا حشورا
وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر
وقال : الزنجبيل اسم لعين يشرب منها المقربون صرفا، ويمزج لسائر أهل الجنة، و"عينا" بدل من "كأسا"، أو من "زنجبيلا" عين على القول الثاني. قتادة
و"سلسبيلا" قيل: هو اسم بمعنى السلس المنقاد الجرية، وقال : حديد الجرية، وقيل: هي عبارة عن اتساعها، وقال مجاهد : لم أسمع هذه اللفظة إلا في القرآن، وقال آخرون: "سلسبيلا" صفة لقوله تعالى: "عينا"، و"تسمى" بمعنى: توصف وتشهر، وكونه مصروفا مما يؤكد كونه صفة لا اسما، وقال بعض المفسرين: "سلسبيلا" أمر للنبي صلى الله الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها، وهذا قول ضعيف لأن [ ص: 496 ] براعة القرآن وفصاحته لا تجيء هكذا، واللفظة معروفة في اللسان، وأن "السلس والسلسبيل" بمعنى واحد ومتقارب. ابن الأعرابي
و"مخلدون" قال جمهور الناس: معناه: باقون، من الخلود، وجعلهم ولدانا لأنهم في هيئة الولدان في السن، لا يتغيرون عن تلك الحال، وقال وغيره: "مخلدون" معناه: مقرطون، والخلدات حلي تعلق في الآذان، ومنه قول الشاعر: أبو عبيدة
ومخلدات باللجين كأنما أعجازهن أقاوز الكثبان
وشهرة هذه اللغة في حمير.
وشبههم تعالى باللؤلؤ المنثور في بياضهم وانتشارهم في المساكن يجيئون ويذهبون، وفي جمالهم، ومنه سميت المرأة درة وجوهرة، ثم كرر تعالى ذكر الرؤية مبالغة، و"ثم" ظرف، والعامل فيه "رأيت" أو معناه، وقال : التقدير: إذا رأيت ما ثم رأيت، وحذفت "ما". وقرأ الفراء حميد الأعرج : "ثم" بضم الثاء، و"النعيم" : ما هم فيه من حسن عيش. و"الملك الكبير" قال : هو استئذان الملائكة وتسليمهم عليهم وتعظيمهم لهم في ذلك كالملوك، وقال أكثر المفسرين: "الملك الكبير" اتساع مواضعهم، روي عن سفيان أنه قال: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه، وأدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه. عبد الله بن عمر