تفسير سورة المرسلات
وهي مكية في قول جمهور المفسرين، وحكى أنه قيل: إن فيها من المدني قوله تعالى: النقاش وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون , على تأويل من قال إنها حكاية عن حال المنافقين, وإنها بمعنى قوله تعالى: ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون , وقال : نزلت هذه السورة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود بخيبر... الحديث بطوله.
قوله عز وجل:
والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين
قال كثير من المفسرين: "المرسلات": الرسل إلى الناس من الأنبياء عليهم السلام, كأنه تعالى قال: والجماعات المرسلات، وقال أبو صالح ، ، ومقاتل : المرسلات: الملائكة المرسلة بالوحي وبالتعاقب على العباد طرفي النهار، وقال وابن مسعود أيضا ابن [ ص: 502 ] مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد : المرسلات: الرياح، وقال وقتادة المرسلات: السحاب. و"عرفا" معناه على القول الأول: عرفا من الله وإفضالا على عباده ببعثة الرسل عليهم السلام, ومنه قول الشاعر : الحسن بن أبي الحسن:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
ويحتمل أن يريد بقوله "عرفا" متتابعة, على التشبيه بتتابع عرف الفرس وأعراف الجبال ونحو ذلك، والعرب تقول: "الناس إلى فلان عرف واحد" إذا توجهوا إليه، ويحتمل أن يريد: بالعرف، أي بالحق والأمر بالمعروف، وهذه الأقوال في "عرفا" تتجه في قول من قال: في المرسلات هى الملائكة، ومن قال إن المرسلات هى الرياح اتجه في "العرف" أن يقال: التأول على تخصيص الرياح التي هي نعمة بها الأرزاق والنجاة في البحر وغير ذلك مما لا نقمة فيه، ويكون الصنف الآخر من الريح في قوله تعالى "فالعاصفات عصفا"، ويحتمل أن يكون "عرفا" بمعنى: والمرسلات الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عقب بذكر الصنف المستنكر الضار وهي العاصفات، ويحتمل أن يريد بالعرف مع الرياح التتابع كعرف الفرس ونحوه، وتقول العرب: "هب عرف من ريح"، والقول في العرف مع أن المرسلات هي الرياح يطرد على أن المرسلات السحاب، وقرأ "عرفا" بضم الراء. و"العاصف" من الريح الشديدة العاصفة للشجر وغيره. عيسى:
واختلف الناس في قوله تعالى: "والناشرات", فقال ، مقاتل : هي الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال، وقال والسدي ، ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد : هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره، وقال بعض المتأولين: الناشرات طوائف الملائكة التى تباشر إخراج الموتى من قبورهم للبعث, فكأنهم يحيونهم, وقال قوم: الناشرات [ ص: 503 ] الرمم في بعث يوم القيامه, يقال: نشر الميت, ومنه قول وقتادة الأعشى:
............ يا عجبا للميت الناشر
وقيل: الناشرات البقاع التى تحيا بالأمطار, شبهت بالميت ينشر, وقال أبو صالح : الناشرات الأمطار تحى الأرض.
"فالفارقات", قال , ابن عباس , وابن مسعود وأبو صالح , , ومجاهد : هى الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام, وقال والضحاك قتاده, , والحسن وابن كيسان : الفارقات آيات القران.
وأما "الملقيات ذكرا" فهى في قول الجمهور: الملائكة, قال : مقاتل جبريل عليه السلام ونحوه, وقال آخرون: هى الرسل عليهم السلام, وقرأ جمهور الناس: "فالملقيات" بسكون اللام, أى تلقيه من عند الله تعالى وبأمره إلى الرسل عليهم السلام وقرأ رضي الله عنه -فيما ذكر ابن عباس المهدوى- "فالملقيات" بفتح اللام وفتح القاف وشدها أى تلقاه من قبل الله تعالى. وقرأ أيضا "فالملقيات" بفتح اللام وشد القاف وكسرها أى: تلقيه هى للرسل عليهم السلام, و"الذكر" الكتب والشرائع ومضمناتها. ابن عباس
وأختلف القراء في قوله تعالى: عذرا أو نذرا , فقرأ , ابن كثير , ونافع , وابن عامر -فى رواية وعاصم أبى بكر- , وأبو جعفر وشيبة بسكون الذال في "عذرا" وضمها في "نذرا", وقرأ , أبو عمرو , وحمزة والكسائى, وحفص عن , عاصم وإبراهيم التيمى بسكون الذال فيهما, وقرأ , طلحة , وعيسى -بخلاف- والحسن , وزيد بن ثابت وأبو جعفر وأبو حيوة, عن والأعمش عن ابن كثير بضمها فيها. وإسكان الذال على أنها مصدران, يقال: عذرا وعذير, ونذر ونذير, كنكير ونكر, وضم الذال يصح معه [ ص: 504 ] المصدر ويصح أن يكون جمعا لنذير وعاذر للذين هما اسم فاعل، والمعنى أن الذكر يلقي بإعذار وإنذار، أو يلقيه معذورون ومنذرون، وأما النصب في قوله تعالى: عاصم عذرا أو نذرا فيصح إذا كانا مصدرين أن يكون ذلك على البدل من "الذكر"، ويصح أن يكون على المفعول للذكر، كأنه تعالى قال: فالملقيات أن يذكر عذرا، ويصح أن يكون "عذرا" مفعولا من أجله، أي تلقي الذكر من أجل الإعذار وأما إذا كان "عذرا أو نذرا" جمعا فالنصب على الحال، وقرأ إبراهيم التيمي : "عذرا ونذرا" بواو بدل "أو".
قوله تعالى: "إنما توعدون لواقع"، هذا الذي وقع عليه القسم والإشارة إلى البعث، و"طمس النجوم" : إزالة أضوئها واستوائها مع سائر جرم السماء، و"فرج السماء" هو بانفطارها حتى تحدث فيها فروج، و"نسف الجبال" هو بعد التسيير، وقيل: كونها هباء وهو تفريقها بالريح، وقرأ الجمهور: "أقتت" بالهمزة وشد القاف، وقرأ بتخفيف القاف مع الهمز عيسى، وخالد، وقرأ وحده "وقتت" بالواو، وقرأ بها أبو عمرو ، أبو الأشهب ، وعيسى ، قال وعمرو بن عبيد هي لغة سفلى عيسى: مضر، وقرأ بواو واحدة خفيفة القاف، وهي قراءة أبو جعفر ، ابن مسعود ، وقرأ والحسن "ووقتت" بواوين، على وزن فوعلت، والمعنى: جعل لها وقت مسطر فجاء وحان، والواو في هذا كله هي الأصل والهمزة بدل. الحسن بن أبي الحسن:
وقوله تعالى: لأي يوم أجلت تعجيب وتوقي على عظم ذلك اليوم وهوله، ثم فسر تعالى ذلك الذي عجب منه بقوله: "ليوم الفصل" يعني تعالى: بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، وفي هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الحكومات ليقع فصل القضاء عند تمامها ثم عظم سبحانه يوم الفصل بقوله: "وما أدراك ما يوم الفصل"، على نحو قوله تعالى: "وما أدراك ما الحاقة" وغير ذلك، ثم أثبت تعالى الويل للمكذبين في ذلك اليوم، والمعنى: للمكذبين به في الدنيا وبسائر فصول الشرع، و"الويل" : هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء، ويروى عن ، النعمان بن بشير ، وابن مسعود ، أن واديا في جهنم اسمه الويل . وعمار بن ياسر