[ ص: 505 ] قوله عز وجل:
ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين
قرأ جمهور القراء: "ثم نتبعهم" بضم العين على استئناف الخبر، وقرأ - فيما روي عنه_: "ثم نتبعهم" بجزم العين عطفا على "نهلك" وهي قراءة أبو عمرو ، وعلى حسب هاتين القراءتين يجيء التأويل في "الأولين"، فمن قرأ الأولى جعل "الأولين" الأمم التي قدمت قريشا بأجمعها، ثم أخبر تعالى أنه يتبع "الآخرين" من الأعرج قريش سير اولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم، ومن قرأ الثانية جعل "الأولين"، قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم، و"الآخرين" قوم فرعون وكل من تأخر وقرب من مدة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي حرف : "وسنتبعهم" ثم قال تعالى: "كذلك نفعل بالمجرمين" أي في المستقبل، فتدخل هنا عبد الله قريش وغيرها من الكفار.
وأما تكرار قوله تعالى في هذه السورة: ( ويل يومئذ للمكذبين ) فقيل: ذلك بمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعد على التكذيب يؤكد ذلك الذي في الآية.
ثم وقف تعالى على أصل الخلقة الذي يقتضي النظر فيها تجويز البعث، و"الماء المهين" معناه: الضعيف، وهو المني من الرجل والمرأة، و"القرار المكين" الرحم وبطن المرأة، و"القدر المعلوم" : وقت الولادة، ومعناه: معلوم عند الله تعالى في شخص شخص، وأما عند الآدميين فيختلف، فليس بمعلوم قدر شخص بعينه، وقرأ رضي الله عنه، علي بن أبي طالب ، ونافع : "فقدرنا" بتشديد الدال، وقرأ الباقون بتخفيفها، وهما بمعنى، من القدرة والقدر، ومن التقدير والتوقيف، وقوله والكسائي
[ ص: 506 ] تعالى: "القادرون" يرجح قراءة الجماعة، أما أن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود أنه فسر "القادرين" بالمقدرين، وقدر : "فقدرنا" بتشديد الدال "فنعم المقتدرون" ابن أبي عبلة
و"الكفات" : الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع، تقول: كفت الرجل شعره، إذا جمعه بخرقة، فالأرض تكفت الأحياء على ظهرها، وتكفت الأموات في بطنها، و"أحياء" على هذا التأويل- معمول لقوله سبحانه: "كفاتا" لأنه مصدر، وقال بعض المتأولين: "أحياء وأمواتا"، إنما هو بمعنى أن الأرض فيها أقطار أحياء وأقطار أموات، يراد: ما ينبت وما لا ينبت، فنصب "أحياء"- على هذا- إنما هو على الحال من "الأرض"، والتأويل الأول أقوى،وقال بنان: خرجنا مع إلى جنازة فنظر إلى الجبانة فقال: هذه كفات الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء، وكانت الشعبي العرب تسمي "بقيع الغرقد" كفتة لأنها مقبرة تضم الموتى، وفي الحديث . ودفن "خمروا آنيتكم، وأوكوا أسقيتكم، واكفتوا صبيانكم، وأغلقوا أبوابكم وأطفئوا مصابيحكم" قملة في المسجد ثم قرأ: "ألم نجعل الأرض كفاتا"، ولما كان القبر كفاتا كالبيت قطع من سرق منه. ابن مسعود
و "الرواسي" الجبال; لأنها رست، أي ثبتت، و"الشامخ" : المرتفع، ومنه: شمخ بأنفه، أي ارتفع واستعلى، شبه المعنى بالشخص. و"أسقى" جعله سقيا للغلات والمنافع، وسقى معناه للشفة خاصة; هذا قول لجماعة من أهل اللغة، وقال آخرون: هما بمعنى واحد، و"الفرات" : الصافي، ولا يقال للملح فرات، وهي لفظة
[ ص: 507 ] تجمع ماء المطر ومياه الأنهار، وخص النهر المشهور بهذا تشريفا له، وهو نهر الكوفة، وسيحان هو نهر بلخ، وجيحان هو دجلة، والنيل نهر مصر. وحكي عن أن كل ماء في الأرض فهو من هذه، وفي هذا بعد، والله تعالى أعلم. عكرمة