إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا
[ ص: 516 ] لأن الله تعالى يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين، وبين الحق والباطل، و"الميقات" مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد. وقوله تعالى: "يوم ينفخ" بدل من "يوم" الأول، "يوم الفصل" هو يوم القيامة; هذا قول الجمهور، ويحتمل هذا الموضع أن يكون "الصور" فيه جمع "صورة" أي: يوم يرد الله تعالى الأرواح إلى الأبدان، هذا قول بعضهم في "الصور" وجوزه و"الصور" : القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس، , والأول أشهر، وبه تظاهرت الآثار، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله سبحانه: أبو حاتم ثم نفخ فيه أخرى ، وقرأ رضي الله عنهما: في "الصور" بفتح الواو. ابن عباس
و "الأفواج": الجماعات يتلو بعضها بعضا، واحدها فوج.
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو جعفر وشيبة ، : "وفتحت" ، بشد التاء على المبالغة، وقرأ والحسن ، عاصم ، وحمزة : "وفتحت" دون شد. وقوله تعالى: والكسائي فكانت أبوابا قيل معناه: تتفطر وتتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدارات، وقال آخرون -فيما حكى -: الأبواب هنا فلق الخشب التي تجعل أبوابا لفتوح الجداران، أي مكي بن أبي طالب والقول الأول أحسن، وقال بعض أهل العلم: تتفتح في السماء أبواب للملائكة من حيث ينزلون ويصعدون، وقوله تعالى: تتقطع السماء قطعا صغارا حتى تكون كألواح الأبواب، فكانت سرابا عبارة عن تلاشيها وفنائها بعد كونها هباء منبثا، ولم يرد تعالى: أن الجبال تعود تشبه الماء على بعد من الناظر إليها.
و"مرصادا" موضع الرصد، ومنه قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد ، وقد روي عن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجوز على جهنم، فمن كانت له أسباب نجاة نجا وإلا هلك، وقال الحسن بن أبي الحسن : تعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وفي الحديث الصحيح: قتادة "إن ثم يجوز عليه الناس، فناج ومكدوس" الصراط جسر ينصب على متن جهنم، ، وقال بعض المتأولين: "مرصادا" مفعال بمعنى [ ص: 517 ] راصد، وقرأ أبو معمر المنقري: "أن جهنم" بفتح الألف، والجمهور على كسرها، و"الطاغون": الكافرون، و"المآب: المرجع، و"الأحقاب" : جمع حقب بضم الحاء وفتح القاف، وحقب بكسر الحاء، وحقب: وضم القاف، وهو جمع حقبة، ومنه قول متمم:
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة ويقال للسنة أيضا: حقبة, وقال [ ص: 518 ] بشر بن كعب : حدها على ما ورد في الكتب المنزلة ثلاثمائة سنة، وقال هلال الهجري: ثمانون سنة، قالا: في كل سنة، ثلاثمائة وستون يوما، وقال ، ابن عباس رضي الله عنهم: ثمانون ألف سنة، وقال وابن عمر سبعون ألف سنة، وقيل: خمسون ألف سنة، وقال الحسن: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبو أمامة إنه ثلاثون ألف سنة، وكثر الناس في هذا، واللازم أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون أحقابا، كلما مر حقب جاء غيره، إلى غير نهاية، قال ليس لها عدة إلا الخلود في النار، ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال الحسن: : الحقب سبعة عشر ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: مقاتل بن حيان فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ، وقد ذكرنا فساد هذا القول. وقال آخرون: الموصوفون باللبث أحقابا هم عصاة المؤمنين. وهذا أيضا ضعيف، ما بعده في السورة يدل عليه، وقال آخرون: إنما المعنى: لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا، فبهذه الحال يلبثون أحقابا، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم.
وقرأ الجمهور "لابثين" ، وقرأ وحده، حمزة ، وابن مسعود ، وعلقمة ، وابن وثاب ، وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل "لبثين" جمع "لبث"، وهي قراءة معترضة، لأن فعلا إنما يكون لما صار خلقا كحذر وفرق، وقد جاء شاذا فيما ليس بخلق، وأنشد وغيره في ذلك بيت الطبري لبيد :
أو مسحل عمل عضادة سمحج بسراتها ندب له وكلوم
[ ص: 519 ] قال المعترض في القراءة: لا حجة في هذا البيت لأن "عملا" قد صار كالخلق الذي واظب على العمل به حتى أنه ليسمى به في وقت لا يعمل فيه، كما تقول "كاتب" لمن كانت له صناعة وإن لم يكتب أكثر أحيانه، قال المحتج لها: شبه "لبث" لدوامه بالخلق لما صار اللبث من شأنه.