تفسير سورة النازعات
وهي مكية بإجماع من المتأولين.
قوله عز وجل:
والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة
قال ابن مسعود : وابن عباس آدم، و"غرقا" -على هذا القول- إما أن يكون مصدرا بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل، وإما أن يكون كما قال "النازعات": الملائكة تنزع نفوس بني علي رضي الله عنهم: تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم، وقال وابن عباس وجماعة: النازعات: النفوس تنزع بالموت إلى ربها، و"غرقا" هنا بمعنى الإغراق أي تغرق في الصدور، وقال السدي -فيما روي عنه-: النازعات: الجماعات النازعات بالقسي، و"غرقا" بمعنى الإغراق، وقال عطاء الحسن، ، وقتادة ، وأبو عبيدة وابن كيسان ، : النازعات: النجوم لأنها تنزع من أفق إلى أفق، وقال والأخفش : النازعات: النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها، ولها نزاع عند الموت، وقال قتادة : النازعات: المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان، وقال مجاهد عطاء : النازعات: القسي أنفسها لأنها تنزع بالسهام. وعكرمة
واختلف في ، فقال "الناشطات" ابن عباس : هي الملائكة لأنها تنشط النفوس عند الموت، أي تحلها كحل العقال، وتنشط بأمر الله تعالى إلى حيث كان، وقال ومجاهد : الناشطات: المنايا، وقال مجاهد أيضا ابن عباس ، وقتادة ، والأخفش : الناشطات: النجوم لأنها تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب وتسير بسرعة، [ ص: 526 ] ومن ذلك قيل لبقر الوحش: النواشط; لأنهن يذهبن بسرعة من موضع إلى آخر، وقال والحسن : الناشطات في الآية: البقرة الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر، ومن هذا المعنى قول الشاعر : عطاء
أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
وكأن هذه اللفظة في هذا التأويل مأخوذة من النشاط، وقال أيضا عطاء : الناشطات الأوهان، تقول: نشطت البعير والإنسان إذا ربطته، وأنشطته: إذا حللته، حكاه وعكرمة وخولف فيه، ومنه الحديث الفراء وقال "كأنما أنشط من عقال"، أيضا: الناشطات: النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج. ابن عباس
والسبح: العوم في الماء، وقد يستعمل مجازا في خرق الهواء والتقلب فيه، واختلف في في الآية، فقال "السابحات" قتادة : هي النجوم لأنها تسبح في فلك، وقال والحسن علي رضي الله عنهما: هي الملائكة لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله تعالى، تجيء وتذهب، وقال ومجاهد أبو روق :السابحات: الشمس والقمر والليل والنهار، وقال بعض المتأولين: السابحات: السحاب لأنها كالعائمة في الهواء، وقال وجماعة: السابحات: الخيل، ويقال للفرس: سابح، وقال آخرون السابحات: الحيتان دواب البحر فما دونها، وذلك من عظيم المخلوقات، فيروى أن الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر، وقال عطاء أيضا: السابحات: السفن، وقال عطاء أيضا: السابحات: المنايا تسبح في نفوس الحيوان. مجاهد
واختلف الناس في "السابقات"، فقال : هي الملائكة، وقيل: الرياح، وقال مجاهد : هي الخيل، وقيل: النجوم، وقيل: المنايا تسبق الآمال، وقال الشاعر: [ ص: 527 ] عطاء
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وأما فلا أحفظ خلافا أنها الملائكة، ومعناها أنها تدبر الأمور التي يسخرها الله تعالى وصرفها فيها كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات. "المدبرات"
قال : "الراجفة": الأرض بأهلها، تهتز بنفخة الصور الأولى، وقيل الراجفة النفخة نفسها، و"الرادفة" النفخة الأخرى، ويروى أن بينهما أربعين سنة، وقال ابن زيد : الراجفة القيامة، والرادفة البعث، وقال عطاء : "الراجفة الموت، والرادفة الساعة، وقال ابن زيد : أبي بن كعب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه".
ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف ذلك اليوم، أي ترتعد خوفا وفرقا من العذاب، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق، ومنه قول الشاعر قيس بن الخطيم:
إن بني جحجبى وأسرتهم أكبادنا من ورائهم تجف
ورفع "قلوب" بالابتداء، وجاز ذلك وهو نكرة لأنها قد تخصصت بقوله تعالى: "يومئذ".
[ ص: 528 ] واختلف الناس في جواب القسم، أي هو؟ فقال الفراء : هو محذوف دل الظاهر عليه، تقديره: لتبعثن أو لتعاقبن يوم القيامة، وقال بعض النحاة: هو في قوله تعالى: والزجاج إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ، وهذا ضعيف لبعد القول، ولأن المعنى هنالك يستحق "أن"، وقال آخرون: هو في قوله تعالى: "يوم" على تقدير حذف اللام، كأنه تعالى قال: ليوم، وقال آخرون: هو موجود في جملة قوله تعالى: يوم ترجف الراجفة .... قلوب يومئذ واجفة ، كأنه تعالى قال: لتجفن قلوب يوم كذا، ولما دلت القلوب على أصحابها ذكر بعد ذلك أبصارها وخشوعها، ذلها وما يظهر منها من الهم بالحال.
وقوله تعالى: "يقولون" هي حكاية حالهم في الدنيا، معناه: هم الذين يقولون، وقولهم: "أئنا" هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب، وقرأ ابن أبي إسحاق ، : "أئنا" بهمزتين ومدة، على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: "آئنا" بهمزتين ومدة، على الاستفهام، وقرأ جمهور القراء: "أينا" باستفهام وهمزة واحدة. وابن يعمر
و"الحافرة" لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع إليه من آخره، يقال: عاد فلان في الحافرة إذا ارتكس في حال من الأحوال، ومنه قول الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب؟ معاذ الله من سفه وعار
والمعنى: أئنا لمردودون: إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت، وقال مجاهد : الحافرة الأرض، فاعلة بمعنى مفعولة، وقيل: بل هو على النسب، أي ذات حفر، والمراد القبور لأنها حفرت للموتى، فالمعنى: أئنا لمردودون أحياء في قبورنا؟ وقال والخليل : الحافرة النار، وقرأ زيد بن أسلم أبو حيوة: "في الحفرة" بغير ألف، فقيل: هو بمعنى الحافرة، وقيل: هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه إذا تأكلت وتغير ريحها.
و"الناخرة": المصوتة بالريح المجوفة، ومنه قول الشاعر: [ ص: 529 ]
وأخليتها من مخها فكأنها قوارير في أجوافها الريح تنخر
ويروى: تصفر. و"ناخرة" هي قراءة ، حمزة ، في رواية وعاصم - أبي بكر ، وعمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومسروق ، وجماعة سواهم، وقرأ الباقون، ومجاهد وحفص عن ، عاصم ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والحسن ، والأعرج ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر وشيبة ، ، وأبو عبد الرحمن ، وأهل وابن جبير مكة، وشبل، ، وقتادة وأيوب، ، والنخعي : "نخرة" دون ألف بعد النون، ومعناه: بالية متعفنة قد صارت رميما، يقال: نخر العود والعظم إذا بلي وصار يتفتت، وحكي عن وابن وثاب ، أبي عبيدة وأبي حاتم، ، وغيرهم أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد، كطامع وطمع، وحاذر وحذر، والأكثر من الناس على ما قدمناه،قال والفراء : الناخرة التي لم تنخر بعد، والنخرة التي قد بليت. أبو عمرو بن العلاء