كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون
هذه الآية وما بعدها يظهر أنها من نمط المكي، وهو أحد الأقوال التي ذكرناها قبل. و"كلا" يجوز أن تكون ردا لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحا بمنزلة "ألا"، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و"الفجار": الكفار، و"كتابهم" يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى: وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي: هنالك كتبوا في الأزل. وقرأ ، أبو عمرو والأعرج : "الفجار" بالإمالة، و"الأبرار" بالفتح، قاله وعيسى . أبو حاتم
واختلف الناس في "سجين" ما هو؟ فقال الجمهور: هو فعيل من السجن، كسكير وشريب، أي في موضع ساجن وساكر وشارب، فجاء "سجين" بناء مبالغة، قال : وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال مجاهد حاكيا عن التوراة، كعب : هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل -عن النبي عليه الصلاة والسلام- صلى الله عليه [ ص: 560 ] وأبي بن كعب في بئر هنالك، وقيل تحت خد إبليس، وقال : هي الأرض السفلى، وقاله عطاء الخراساني عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال البراء : "سجين" عبارة عن الخسار والهوان، كما تقول: بلغ فلان الحضيض، إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: "سجين" نونه بدل من لام، هو من "السجيل". وقوله تعالى: عكرمة وما أدراك ما سجين تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي.
وقوله تعالى: "كتاب مرقوم" من قال بالقول الأول في "سجين" فـ "كتاب" مرتفع عنده على خبر "إن"، والظرف الذي هو"لفي سجين" ملغى، ومن قال في "سجين" بالقول الثاني فـ "كتاب" مرتفع عنده على خبر ابتداء مضمر، والتقدير، هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسرا لـ"سجين"، ما هو؟ و"مرقوم" معناه: مكتوب رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى للمكذبين بيوم الحساب والدين الويل.
وقوله تعالى: "يومئذ" إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله تعالى: "كتاب مرقوم" وذلك أنه يتضمن أنه يرفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و"المتعدي": الذي يتجاوز حدود الأشياء، و"أثيم" مبالغة في "آثم" وقرأ الجمهور: "تتلى"، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: "يتلى" بالياء من تحت. و"الأساطير" جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديما، وقيل هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة، وهو الذي كان يقول: أساطير الأولين، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسفنديار، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول: أنا أحسن حديثا من محمد، فإنما يحدثكم بأساطير الأولين.
وقوله تعالى: "كلا" زجر ورد لقولهم: "أساطير الأولين"، ثم أوجب تعالى أن ما كسبوا من الكفر والطغيان والعتو قد ران على قلوبهم، أي غطى عليها وغلب، فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا، ولا يخلص إلى قلوبهم خبر، يقال: رانت الخمر على عقل [ ص: 561 ] شاربها، وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر:
ثم لما رآه رانت به الخمـ ـر وألا ترينه باتقاء
والبيت لأبي زبيد، قال الحسن، : الرين: الذنب على الذنب حتى يموت القلب، ويروى عن وقتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبي هريرة كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . وقرأ "إن الرجل إذا أذنب صارت نكتة سوداء في قلبه، ثم كذلك حتى يتغطى، فذلك الران الذي قال الله تعالى: ، ابن كثير ، وأبو عمرو بإدغام اللام في الراء، وقرأ وابن عامر أيضا بالإدغام والإمالة، وقال نافع : القراءة بالفتح والإدغام، وعلق تعالى اللوم بهم فيما كسبوه، -وإن كان ذلك بخلق منه سبحانه واختراع-لأن أبو حاتم و"كلا" في قوله تعالى: "كلا إنهم" يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما والضمير في قوله تعالى: "إنهم" وفي "ربهم" هو للكفار فمن قال بالرؤية -وهم أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم، فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد، عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الرؤية عن الكل لما أغنى هذا التخصص، وقال مالك بن أنس : فلما حجب قوما بالسخط دل أن قوما يرونه بالرضى. ومن قال بألا رؤية -وهو قول الشافعي المعتزلة- قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه. و"صلي الجحيم" هو مباشرة حر النار دون حائل.
وقوله تعالى: "ثم يقال" هو على معنى التوبيخ لهم والتقريع، وقوله تعالى: هذا الذي كنتم به تكذبون مفعول لم يسم فاعله; لأنه قول بني له الفعل الذي "يقال"، وقوله تعالى: "هذا" إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم.