واختلف الناس في فقال المشار إليهم بأنه أنعم عليهم، ، وجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: ابن عباس ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد. وقال أيضا: المنعم عليهم هم المؤمنون. وقال ابن عباس : المنعم عليهم أصحاب الحسن بن أبي الحسن محمد صلى الله عليه وسلم. وحكى وغيره عن فرقة من المفسرين: أن المنعم عليهم مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى: مكي يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وقال : المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا، وهذا والذي قبله سواء، وقال ابن عباس قتادة بن دعامة : المنعم عليهم الأنبياء خاصة. وحكى عن مكي أنه قال: المنعم عليهم: أبي العالية محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ، . وعمر
[ ص: 89 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد تقدم ما حكاه عنه من أنه فسر ( الصراط المستقيم ) بذلك، وعلى ما حكى الطبري ينتقض الأول، ويكون ( الصراط المستقيم ) طريق مكي محمد صلى الله عليه وسلم، ، وأبي بكر رضي الله عنهما، وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز. وعمر
واختلف القراء في "الهاء" من "عليهم" فقرأ "عليهم" بضم الهاء وإسكان الميم، وكذلك "لديهم" و "إليهم"، وقرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء، واختلفوا في "الميم"، فروي عن حمزة : التخيير بين ضمها وسكونها، وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان، وكان نافع يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ: "عليهمو وقلوبهمو، وسمعهمو، وأبصارهمو". وقرأ عبد الله بن كثير الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفا أصلية فيلحق في اللفظ واوا مثل قوله: ورش سواء عليهم أأنذرتهم ، وكان ، أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، يكسرون ويسكنون "الميم"، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا، فكان والكسائي ، عاصم ، وابن كثير يمضون على كسر الهاء وضم الميم ( عليهم الذلة ) و ونافع من دونهم امرأتين وما أشبه ذلك، وكان يكسر الهاء والميم فيقول: "عليهم الذلة" و"إليهم اثنين"، وما أشبه ذلك. وكان أبو عمرو يضم الهاء والميم معا "عليهم الذلة"، و"من دونهم امرأتين" قال الكسائي : وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم أو التسكين في مثل قوله: منكم وأنتم. أبو بكر أحمد بن موسى
[ ص: 90 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحكى صاحب الدلائل قال: قرأ بعضهم "عليهمو"بواو وضمتين، وبعضهم بضمتين وألقى الواو، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألقى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم، قال: وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة. قال : حكى ابن جني أحمد بن موسى "عليهمو وعليهم" بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و"عليهم" بسكون الميم، وقرأ ، الحسن وعمرو بن فائد "عليهمي"، وقرئ "عليهم" بكسر الميم دون إشباع إلى الياء، وقرأ "عليهم" بكسر الياء وضم الميم من غير إشباع. وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة، وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات. الأعرج
وقوله تعالى: غير المغضوب عليهم ولا الضالين . واختلف القراء في الراء من "غير"، فقرأ ، نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة : بخفض الراء. وقرأ والكسائي "غير" بالنصب، وروي عنه الخفض. ابن كثير
قال : والخفض على ضربين: على البدل من "الذين"، أو على الصفة للنكرة، كما تقول: مررت برجل غيرك، وإنما وقع هنا صفة ل "الذين" لأن "الذين" هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه، قال: [ ص: 91 ] والنصب في الراء على ضربين: على الحال كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، ويجوز النصب على: أعني، وحكي نحو هذا عن الخليل. أبو علي
ومما يحتج به لمن ينصب -أن "غير" نكرة، فكره أن يوصف بها المعرفة. والاختيار الذي لا خفاء به الكسر، وقد روي عن ، فأولى القراءتين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار. قال ابن كثير أبو بكر بن السراج : "والذي عندي أن "غير" في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة". وهذا شيء فيه نظر ولبس، فليفهم عني ما أقول: اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت "غير" و"مثل" مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت: "رأيت غيرك"، فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت: "رأيت مثلك" فما هو مثله لا يحصى، لكثرة وجوه المماثلة، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى، فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته، ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت "غير" إلى ضده فهو معرفة، كقولك: "عليك بالحركة غير السكون"، وكذلك قوله: غير المغضوب ، لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت "غير" على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
أبقى "الذين" على حد التعريف، وجوز نعتها بـ "غير" لما بينه من تعرف "غير" في هذا الموضع، وغير أبو بكر وقف مع تنكر "غير"، وذهب إلى تقريب "الذين" من النكرة، إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة. أبي بكر
و المغضوب عليهم : اليهود ، و"الضالون" النصارى ، وهكذا قال ، [ ص: 92 ] ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وروى ذلك وابن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله تعالى، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله: ( وباءوا بغضب من الله ) وكقوله تعالى: عدي بن حاتم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير فهؤلاء اليهود بدلالة قوله تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ، والغضب عليهم هو من الله تعالى، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنا، وعقوبات، وذلة، ونحو ذلك. مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه. والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد ضلوا، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام ، وقد قال الله تعالى فيهم: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل قال رحمه الله حكاية: دخلت "لا" في قوله: مكي ولا الضالين لئلا يتوهم أن الضالين عطف على "الذين" قال: وقيل: هي مؤكدة بمعنى غير: وحكى أن "لا" زائدة، وقال: هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز: الطبري
فما ألوم البيض ألا تسخرا ......................................
أراد: أن تسخر. وفي قول : الأحوص[ ص: 93 ]
ويلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبيت إنما معناه: إرادة ألا أحبه فـ "لا" فيه متمكنة. الأحوص
قال : ومنه قوله تعالى: الطبري ما منعك ألا تسجد ، وإنما جاز أن تكون "لا" بمعنى الحذف، لأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الأخير مناسبا للأول، كما قال الشاعر:
ما كان يرضي رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا غير شاف، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم، مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم -الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحاط بهم غضبا، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم، دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر [ ص: 94 ] وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر.
وليس في العبارة بـ "الضالين" تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم، لأن هذا إنما هو كقولهم: تهدم الجدار، وتحركت الشجرة، والهادم والمحرك غيرهما، وكذلك النصارى ، خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم.
وقرأ : "الضألين" بهمزة غير ممدودة، كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. وحكى أيوب السختياني أبو زيد قال: سمعت يقرأ: "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن"، فظننته قد لحن حتى سمعت من عمرو بن عبيد العرب دأبة وشأبة. قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كثير :
...................................... إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت
وللأرض أما سودها فتجللت بياضا، وأما بيضها فادهأمت
وقد ذكرنا في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك.