الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
"يؤمنون" معناه: يصدقون، ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى: [ ص: 105 ] ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وكما قال: فما آمن لموسى ، وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعد بالباء يفهم من المعنى.
واختلف القراء في همز "يؤمنون": فكان ، ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة يهمزون "يؤمنون" وما أشبهه مثل: يأكلون، ويأمرون، ويؤتون وكذلك مع تحرك الهمزة مثل: يؤخركم، ويؤوده، إلا أن والكسائي كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز، وروى حمزة عن ورش ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن نافع أنه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة، وكان عاصم إذا أدرج القراءة، أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله. أبو عمرو
وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل: "ننسأها"، و"هيئ لنا" وما أشبهه.
وقوله "بالغيب" قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا، ويكفرون إذا غابوا، وقال آخرون: يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع. واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل، وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الحشر والصراط والميزان والجنة والنار. وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها.
والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.
[ ص: 106 ] وقوله: "يقيمون" معناه: يظهرونها ويثبتونها كما يقال: أقيمت السوق. وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر:
وإذا يقال: أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
ومنه قول الشاعر:أقمنا لأهل العراقين سوق الـ ـضراب فخاسوا وولوا جميعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما، فإن لجنب المرء مضطجعا
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
والقول إنها من الدعاء أحسن.
وقوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون كتبت "مما" متصلة، و"ما" بمعنى الذي فحقها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضا فلما خفيت نون "من" في اللفظ حذفت في الخط، و"الرزق" عند أهل السنة. ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، بخلاف قول المعتزلة : إن الحرام ليس برزق. و"ينفقون" معناه هنا: يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة، وما ندبهم إليه من غير ذلك.
قال : "ينفقون" يؤتون الزكاة احتسابا لها. قال غيره: الآية في النفقة في الجهاد. ابن عباس
قال : هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يسرهم. قال الضحاك ، ابن مسعود أيضا: هي نفقة الرجل على أهله. والآية تعم الجميع، وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف. وابن عباس