إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
معنى الكفر مأخوذ من قولهم: كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر:
...................................... في ليلة كفر النجوم غمامها
أي: سترها، ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده، قال الشاعر:فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما ألقت ذكاء يمينها في كافر
فـ "كفر" في الدين معناه: غطى قلبه بالرين عن الإيمان، أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة، لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم: هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد. وقال : نزلت هذه الآية في ابن عباس حيي بن أخطب ، وأبي ياسر بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ونظرائهم، وقال : نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب الربيع بن أنس ببدر .
[ ص: 111 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب -بموته على الكفر- أنه في ضمن الآية.
وقوله: سواء عليهم ، ومعناه: معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر:
وليل يقول الناس من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها
و"سواء" رفع على خبر إن، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر إن، ويصح أن يكون خبر إن "لا يؤمنون". وقرأ ، أبو عمرو ، وابن كثير : "آنذرتهم" بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة [ ص: 112 ] ونافع إذا خفف، غير أن مد الكسائي أطول من مد أبي عمرو لأنه يدخل بين الهمزتين ألفا، ابن كثير لا يفعل ذلك، وروى وابن كثير ، قالون وإسماعيل بن جعفر ، عن إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية، وروى عنه نافع تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما ورش عاصم وحمزة -إذا حقق- والكسائي ، فبالهمزتين "أأنذرتهم"، وما كان مثله في كل القرآن، وقرأ وابن عامر ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما. وقرأ ، الزهري وابن محيصن "أنذرتهم" بحذف الهمزة الأولى، وتدل "أم" على الألف المحذوفة.
وكثر في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. مكي
والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين، قال الله عز وجل فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود وقال: إنا أنذرناكم عذابا قريبا وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه. وقوله تعالى: أأنذرتهم أم لم تنذرهم لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا: سواء علي أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهما: أخرج زيد أم قام؟ فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاما.
وقوله تعالى: ختم الله مأخوذ من الختم وهو الطبع، والخاتم الطابع، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على الحقيقة، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع [ ص: 113 ] زيادة الضلال والإعراض إصبعا إصبعا، وقال آخرون: ذلك على المجاز، وأن ما اخترع الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختما. وقال آخرون ممن حمله على المجاز: الختم هنا أسند إلى الله تعالى لما كفر الكافرون به، وأعرضوا عن عبادته وتوحيده، كما يقال: أهلك المال فلانا، وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه. وقرأ الجمهور "وعلى سمعهم"، وقرأ : "وعلى أسماعهم"، وهو في قراءة الجمهور مصدر يقع للقليل والكثير، وأيضا فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل المضاف إليه على المراد، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. و"الغشاوة": الغطاء المغشي الساتر. ومنه قول النابغة: ابن أبي عبلة
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
...................................... متقلدا سيفا ورمحا
...................................... علفتها تبنا وماء باردا
وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار -والوقف في قوله: "على قلوبهم"، وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الخاتم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد ذكرنا اعتراض أبي علي هذا القول.
وقرأ أبو حيوة "غشوة" بفتح الغين والرفع، وهي قراءة ، وقال الأعمش : كان أصحاب الثوري يقرؤونها "غشية" بفتح الغين والياء والرفع، وقرأ عبد الله : "غشاوة" بضم الغين، وقرئت "غشاوة" بفتح الغين، وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين على وزن "عمامة"، والأشياء التي هي أبدا مشتملة هكذا يجيء [ ص: 115 ] وزنها كالضمامة والعمامة والكتابة والعصابة والربابة وغير ذلك. الحسن
وقوله تعالى: ولهم عذاب عظيم معناه: بمخالفتك يا محمد ، وكفرهم بالله، استوجبوا ذلك، و"عظيم" معناه بالإضافة إلى عذاب دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان كسوادين: أحدهما أشبع من الآخر إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.