ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا .
"أدنى" أقرب، وهو من الدنو، وموضع أن من الإعراب نصب بإسقاط الخافض، والناصب أريحية الفعل الذي في "أدنى"، التقدير: ذلك أدنى إلى ألا تعولوا. و"تعولوا" معناه: تميلوا، قاله ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وغيرهم، يقال: عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قول والسدي أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
بميزان قسط لا يخس شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
يريد غير مائل. ومنه قول لأهل عثمان الكوفة حين كتب إليهم: إني لست بميزان لا أعول. ويروى بيت أبي طالب: "له شاهد من نفسه غير عائل"، وعال يعيل، معناه: افتقر فصار عالة. وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد معناه: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم. وحكى والشافعي: أن ابن الأعرابي العرب تقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقدح في هذا وغيره، بأن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر؟!. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة .
وقوله: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة قال ابن عباس وقتادة إن الخطاب في هذه الآية للأزواج، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم. وقال وابن جريج: أبو صالح: الخطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن. وقال [ ص: 469 ] المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والآية تتناول هذه الفرق الثلاث.
وقرأ جمهور الناس والسبعة: "صدقاتهن" بفتح الصاد وضم الدال، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم: "صدقاتهن" بضم الصاد والدال، وقرأ وغيره: "صدقاتهن" بضم الصاد وسكون الدال، وقرأ قتادة ابن وثاب "صدقتهن" بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا كله: صدقة، وصدقة. و"نحلة": معناه: نحلة منكم لهن، أي: عطية، وقيل: التقدير: من الله عز وجل لهن، وذلك لأن والنخعي ولم يجعل على النساء شيئا، وقيل: نحلة معناه: شرعة، مأخوذ من النحل تقول: فلان ينتحل دين كذا، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء، ويتجه مع سواه، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها، تقديره: انحلوهن نحلة، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى، ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ، لا يصح غير ذلك، وعلى أنها شريعة هي أيضا من الله. الله جعل الصداق على الرجال
وقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن. والضمير في: "منه" راجع على الصداق، وكذلك قال وغيره، أو على الإيتاء. وقال عكرمة حضرمي: سبب الآية أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات. "نفسا" نصب على التمييز، ولا يجوز تقدمه على العامل عند إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل، وإجازة غيره في الكلام. ومنه قول الشاعر: سيبويه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما كان نفسا بالفراق تطيب
[ ص: 470 ] و "من": تتضمن الجنس هاهنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقفت "من" على التبعيض لما جاز ذلك. وقرئ "هنيا مريا" دون همز، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن قال والزهري. ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء. الطبري:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف; وإنما قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة، وكذلك المريء، قال اللغويون: يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني على وزن أفعل. قال وهذا كما جاء في الحديث أبو علي: فإنما اعتلت الواو من موزورات إتباعا للفظ مأجورات، فكذلك مرأني إتباعا لهنأني. ودخل رجل على "ارجعن مأزورات غير مأجورات"، وهو يأكل شيئا مما وهبته امرأته من مهرها، فقال له: كل من الهنيء المريء، قال علقمة هنيئا مريئا صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئا مريئا. سيبويه:
وقوله: ولا تؤتوا السفهاء ... الآية، اختلف المتأولون في المراد بـ "السفهاء"; فقال ابن مسعود والسدي والضحاك وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته، وقال والحسن نزلت في المحجورين السفهاء، وقال سعيد بن جبير: نزلت في النساء خاصة، وروي عن مجاهد: أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها: عبد الله بن عمر ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ... الآية. وقال أبو موسى الأشعري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع، فإن والطبري العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات.
وقوله: "أموالكم" يريد أموال المخاطبين، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقال وقتادة. يريد أموال السفهاء ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال، أي: هي لهم إذا احتاجوا، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم، وتصونكم وتعظم أقداركم، ومن مثل هذا: سعيد بن جبير: ولا تقتلوا أنفسكم وما جرى مجراه.
[ ص: 471 ] وقرأ الحسن بن أبي الحسن "اللاتي"، والأموال: جمع لما لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة. والنخعي:
و"قياما" جمع قيمة كديمة وديم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد، وكما قالت بنوضبة: طويل وطيال، ونحو هذا، وقوما وقواما وقياما معناه: ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك، وقرأ نافع "قيما" بغير ألف، وروي أن وابن عامر: فتح القاف من قوله: "قواما، وقياما" كان أصله قواما، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب. ذكرها أبا عمرو ولم ينسبها، وهي قراءة ابن مجاهد أبي عمرو وقرأ الباقون: "قياما" وقرأت طائفة: "قواما". والحسن،
وقوله: وارزقوهم فيها واكسوهم قيل: معناه: فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر، وقيل: في المحجورين من أموالهم، و: "معروفا" قيل: معناه: ادعوا لهم: بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل: معناه: عدوهم وعدا حسنا، أي: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ومعنى اللفظ: كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع.