إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما
إنما حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: إنما الله إله واحد وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله: إنما الشجاع عنترة: فيبقى الحصر في مقصد المادح، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة.
وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة للتوبة، وهي في عرف الشرع: الرجوع من شر إلى خير، وحد التوبة: الندم على فارط فعل، من حيث هو معصية الله عز وجل، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف، وإلا فثم إصرار لا توبة معه، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى شرط [ ص: 494 ] العزم على الترك. والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى: والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة، وتوبوا إلى الله جميعا على الوجوب، خلافا وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره.
وقوله تعالى: "على الله" فيه حذف مضاف تقديره: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سكت قليلا، ثم قال: يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يدخلهم الجنة" معاذ فهذا كله إنما معناه: ما حقهم على فضل الله ورحمته، والعقيدة أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا، فمن ذلك "يا ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب; قال تخليد الكفار في النار، أبو المعالي وغيره: فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط، فقول أبي المعالي: يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن [ ص: 495 ] عباده وقوله: وإني لغفار لمن تاب وآمن والسوء في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: "بجهالة" معناه: بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون الجهالة أن ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وبما ذكرته في الجهالة قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم وقال أبو العالية، اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال به قتادة: ابن عباس ومجاهد وروي عن والسدي، مجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال والضحاك أمور الدنيا كلها جهالة . عكرمة:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله. وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقد تأول قوم قول بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا. عكرمة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فكأن الجهالة اسم للحياة الدنيا، وهذا عندي ضعيف، وقيل: "بجهالة"، أي: لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضا ضعيف، ذكره ورد عليه. ابن فورك
واختلف المتأولون في قوله تعالى: "من قريب"; فقال ابن عباس معنى ذلك: قبل المرض والموت، وقال والسدي: أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وغيرهم: معنى ذلك: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه. وروى وابن زيد "أن الله تعالى لما خلق أبو قلابة: آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر، قال: وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح."
[ ص: 496 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حددوا آخر وقتها. وقال كان يقال: التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه. وروى إبراهيم النخعي: بشير بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والحسن "إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لأن الرجاء فيه باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك.
وقوله تعالى: "من قريب" إنما معناه: من قريب إلى وقت الذنب. ومدة الحياة كلها قريب، والمبادر في الصحة أفضل وأحق لأمله من العمل الصالح، والبعد كل البعد الموت، ومنه قول مالك بن الريب:
. . . . . . . . . ... . .. . . . . وأين مكان البعد إلا مكانيا؟
وقوله تعالى: وكان الله عليما حكيما أي: بمن يتوب وييسره هو للتوبة، حكيما فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك.
ثم نفى بقوله تعالى: "وليست التوبة".... الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس، وحضور الموت هو كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وجماعة المفسرين. وابن زيد
وقال الآية الأولى قوله: الربيع: إنما التوبة على الله هي في المؤمنين، والآية [ ص: 497 ] الثانية قوله: وليست التوبة ... الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فحتم ألا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته، لم ييئسهم من المغفرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وطعن بعض الناس في هذا القول بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وهذا غير لازم، لأن الآية لفظها الخبر، ومعناه تقرير حكم شرعي، فهي نحو قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ونحو قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب، فنحتاج أن نقول: إن قوله: ويغفر ما دون ذلك نسخها، وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائبا من لم يتب إلا مع حضور الموت. فالعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره، وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا، لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوى الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلا منه ولا يعذبه. ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين، فإن كان كافرا فهو يخلد، وإن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة،
وأعلم الله تعالى أيضا أن الذين يموتون وهم كفار فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة.
وقوله تعالى: أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ، إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط، فالعذاب عذاب خلود، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء، عذاب ولا خلود معه، و"أعتدنا" معناه: يسرناه وأحضرناه، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد.