[ ص: 578 ] قوله تعالى:
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا
هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلف في المعنى الذي به زكوا أنفسهم ، فقال قتادة، ذلك قولهم: والحسن: نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا .وقال الضحاك، ذلك قولهم: لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر ليلا، وما فعلناه ليلا غفر نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال والسدي: مجاهد، وأبو مالك، تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم. وعكرمة:
قال المؤلف: وهذا يبعد من مقصد الآية، وقال ذلك قولهم: أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا، ويزكوننا، وقال ابن عباس: ذلك ثناء بعضهم على بعض، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم. عبد الله بن مسعود:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله عز وجل، والضمير في: "يزكون" عائد على المذكورين ممن زكى نفسه، أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية.
وقرأت طائفة "ولا تظلمون" بالتاء على الخطاب.
والفتيل: هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس، [ ص: 579 ] وعطاء، وغيرهم: الفتيل: الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ومجاهد، ابن عباس: وأبو مالك، هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه. ونصبه على مفعول ثان بـ "يظلمون". والسدي:
وقوله تعالى: انظر كيف يفترون الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن.
و"كيف" يصح أن يكون في موضع نصب بـ "يفترون"، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: "يفترون".
و"وكفى به إثما مبينا" خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك، و"إثما" نصب على التمييز.
وقوله تعالى: ألم تر إلى الذين الآية. ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في بالجبت والطاغوت، فقال وغيره: هما في هذا الموضع صنمان كانا عكرمة لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية. وقال الجبت هنا: ابن عباس: حيي بن أخطب والطاغوت: كعب بن الأشرف، فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما، واتباعهم لهما، وقال بالجبت: الأصنام، والطاغوت: القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام. وروي [ ص: 580 ] عن ابن عباس: رضي الله عنه أنه قال: بالجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، وقاله عمر بن الخطاب مجاهد وقال والشعبي، بالجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان، وقال زيد بن أسلم: سعيد بن جبير، ورفيع: بالجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن. وقال بالجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. وقال قتادة: أيضا: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الشيطان. وقال سعيد بن جبير الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر، وقال ابن سيرين: في كتاب مجاهد الجبت: الطبري: كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية: فمجموع هذا يقتضي أن بالجبت والطاغوت هو كل ما عبد وأطيع من دون الله، وكذلك قال رحمه الله: مالك وذكر بعض الناس أن الجبت هو من لغة الحبشة. وقال الطاغوت: كل ما عبد من دون الله تعالى، قطرب: الجبت: أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما الطاغوت فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، وقوله تعالى: ويقولون للذين كفروا الآية، سببها: "أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف حين ورد مكة: أنت سيدنا وسيد قومك، إنا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا آباءنا يعبدون، وهذا الصنبور المنبتر من قومه، قد قطع الرحم، فمن أهدى، نحن أو هو؟ فقالكعب: أنتم أهدى منه، وأقوم دينا، فنزلت هذه الآية، قاله وحكى [ ص: 581 ] ابن عباس. أن السدي خاطب أبا سفيان كعبا بهذه المقالة، فالضمير في "ويقولون" عائد على كعب على ما تقدم، أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين.
"للذين كفروا" في هذه الآية هم قريش، والإشارة بـ "هؤلاء" إليهم، و"أهدى": وزنه أفعل، وهو للتفضيل، و"الذين آمنوا": هم النبي عليه الصلاة والسلام وأمته، و"سبيلا": نصب على التمييز.
وقالت فرقة: بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب، وهو المقصود من أول الآيات، والمشار إليه بقوله: "أولئك" هم المراد من بني إسرائيل، فمن قال: كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظا ومعنى، ومن قال: هو كعب أو حيي، فعبر عنه بلفظ الجمع، لأنه كان متبوعا، وكان قوله مقترنا بقول جماعة.
و"لعنهم" معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئا.