فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه الصلاة والسلام وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى -والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، [ ص: 616 ] أي: أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ، ولهذا ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، وقول "والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي" رضي الله عنه وقت الردة: "ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي". أبي بكر
وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله: "فقاتل" بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر بالتحريض، أي: حث المؤمنين على القيام بالفرض الواجب عليهم.
و"عسى" إذا وردت من الله تعالى، فقال وغيره: إنها واجبة، لأنها من البشر متوقعة مرجوة، ففضل الله تعالى يوجب وجوبها، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة، ثم قوى -بعد ذلك- قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله، وأنه أقدر على الكفرة، وأشد تنكيلا لهم، التنكيل: الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم. عكرمة
وقوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة الآية. أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من: الشفع، وهو الزوج في العدد، لأن الشافع ثان لوتر المذنب والشفيع ثان لوتر المشتري.
واختلف في هذه الآية المتأولون، فقال المعنى: من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، أو من يشفع وتر الكفر بالمعونة على الإسلام. ودله على هذا التأويل ما تقدم من أمر القتال. وقال الطبري: مجاهد، والحسن، وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقال وابن زيد، وغيره: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة هي في [ ص: 617 ] المعاصي،. وهذا كله قريب بعضه من بعض. الحسن
والكفل: النصيب، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر، وفي كتاب الله تعالى: يؤتكم كفلين من رحمته .
و"مقيتا" معناه: قديرا، ومنه قول الشاعر وهو الزبير بن عبد المطلب:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي: قديرا، وعبر عنه ابن عباس بحفيظ وشهيد. ومجاهد: بأنه الواصب القيم بالأمور، وهذا كله يتقارب، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن كثير: على من رواها هكذا، أي: من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، وذهب "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت"، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، وهذا على أن يقال: أقات بمعنى قات، وعلى هذا يجيء قوله عليه الصلاة والسلام: "من يقيت" من أقات، وقد حكى مقاتل بن حيان أقات يقيت، فأما قول الشاعر : الكسائي:
ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها مطوية ودعيت
ألي الفضل أم علي إذا حو سبت؟ إني على الحساب مقيت
فقال فيه إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى: موقوف. الطبري:
[ ص: 618 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول.
وقوله تعالى: "وإذا حييتم" الآية، التحية وزنها تفعلة من: حيي، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل، وروي عن أن هذه الآية في تشميت العاطس، وفيه ضعف، لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة، أما أن الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى مالك رحمه الله إن صح ذلك عنه، والله أعلم. مالك
واختلف المتأولون، فقالت فرقة: التحية أن يقول الرجل: سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول: عليك السلام ورحمة الله، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله، قال الراد: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقد انتهى، ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها، فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية، فالمعنى عند أهل هذه القالة: إذا حييتم بتحية، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا بأحسن، وإن انتهى فردوا. وقالت فرقة: إنما معنى الآية تخيير الراد، فإذا قال البادئ: السلام عليك، فللراد أن يقول، وعليك السلام، فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول: وعليك السلام ورحمة الله، وهذا هو التحية بأحسن منها، وقال وغيره: المراد بالآية: إذا حييتم بتحية فإن كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: ابن عباس وروي عن "وعليكم". ابن عمر، وغيرهما: انتهى السلام إلى البركة، وابن عباس، فإن سلم أحد ساهيا أو جاهلا فينبغي أن يستقيله سلامه، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم، والأول أصوب، لأن به يتصور إذلالهم. وقال وجمهور أهل العلم على ألا يبدأ أهل الكتاب بسلام، كل من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا، وقال ابن عباس: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: [ ص: 619 ] عليك، كما في الحديث. وأكثر أهل العلم على أن عطاء: لأنه حق من الحقوق، قاله الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة، وغيره. الحسن بن أبي الحسن،
و"حسيبا" معناه: حفيظا، وهو فعيل من الحساب، وحسنت هاهنا هذه الصفة إذ معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به.