قوله تعالى :
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
خطابه تعالى يدخل فيه - بحكم الظاهر - المنافقون المظهرون للإيمان؛ ففي اللفظ رفق بهم؛ وهم المراد بقوله تعالى : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ؛ لأن [ ص: 52 ] التوقيف إنما هو لمن ألم بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال؛ والمؤمنون المخلصون ما ألموا قط بشيء من ذلك؛ ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين ؛ أي: والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة؛ وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين؛ بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان؛ والتزموا لوازمه.
و"السلطان": الحجة؛ وهي لفظة تؤنث وتذكر؛ والتذكير أشهر؛ وهي لغة القرآن؛ حيث وقع؛ والسلطان إذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف؛ والتقدير: ذو السلطان؛ أي: ذو الحجة على الناس؛ إذ هو مدبرهم؛ والناظر في منافعهم.
ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من نار جهنم؛ وهي أدراك؛ بعضها فوق بعض؛ سبعة؛ طبقة على طبقة؛ أعلاها هي جهنم؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا؛ فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر هم في أسفل طبقة من النار؛ لأنهم أسوأ غوائل من الكفار؛ وأشد تمكنا من أذى المسلمين.
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ ونافع : "في الدرك"؛ مفتوحة الراء؛ وقرأ وأبو عمرو ؛ حمزة ؛ والكسائي ؛ والأعمش : "في الدرك"؛ بسكون الراء؛ واختلف عن ويحيى بن وثاب ؛ فروي عنه الفتح والسكون؛ وهما لغتان؛ قال عاصم : كـ "الشمع"؛ و"الشمع"؛ ونحوه. أبو علي
[ ص: 53 ] وروي عن ؛ أبي هريرة ؛ وغيرهما؛ أنهم قالوا: "المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ في توابيت من النار؛ تقفل عليهم"؛ و"النصير": بناء مبالغة من "النصر". وعبد الله بن مسعود
ثم استثنى - عز وجل - التائبين من المنافقين؛ ومن شروط التائب أن يصلح في قوله؛ وفعله؛ ويعتصم بالله؛ أي: يجعله منعته؛ وملجأه؛ ويخلص دينه لله تعالى ؛ وإلا فليس بتائب؛ وقال - بحضرة حذيفة بن اليمان -: والله ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين؛ فقال له عبد الله بن مسعود : "وما علمك بذلك؟"؛ فغضب عبد الله بن مسعود ؛ وتنحى؛ فلما تفرقوا مر به حذيفة ؛ فدعاه وقال: أما إن صاحبكم يعلم الذي قلت؛ ثم تلا علقمة إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا ؛ الآية؛ وأخبر تعالى أنهم مع المؤمنين في رحمة الله؛ وفي منازل الجنة؛ ثم وعد المؤمنين الأجر العظيم.
وحذفت الياء من "يؤت"؛ في المصحف تخفيفا؛ قال : لسكونها وسكون اللام في "الله"؛ كما حذفت من قوله: الزجاج يوم يناد المناد ؛ وكذلك: سندع الزبانية ؛ وأمثال هذا كثير؛ والأجر العظيم: التخليد في الجنة.
ثم قال تعالى للمنافقين: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ؛ الآية؛ أي: أي منفعة له في ذلك؛ أو حاجة؟ والشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان؛ لكنه ذكر الإيمان تأكيدا؛ وتنبيها على جلالة موقعه؛ ثم وعد الله تعالى بقوله: وكان الله شاكرا عليما ؛ أي: يتقبل أقل شيء من العمل؛ وينميه؛ فذلك شكر منه لعباده.
والشكور من البهائم الذي يأكل قليلا؛ ويظهر به بدنه؛ والعرب تقول في مثل: "أشكر من بروقة"؛ [ ص: 54 ] لأنها - يقال - تخضر؛ وتنضر بطل السحاب؛ دون مطر؛ وفي قوله: "عليما"؛ تحذير؛ وندب؛ إلى الإخلاص.