قوله - عز وجل -:
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
الضمير في "لهم"؛ عائد على من ذكر في قوله: "وقفوا"؛ و"قالوا"؛ وهذا الكلام يتضمن أنهم كانوا يخفون شيئا ما في الدنيا؛ فظهر لهم يوم القيامة؛ أو ظهر لهم وباله وعاقبته؛ فحذف المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه؛ وحكى عن فرقة أنها قالت: الآية في المنافقين؛ لأنهم كانوا يخفون الكفر؛ فبدا لهم وباله يوم القيامة. الزهراوي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وتقلق العبارة على هذا التأويل؛ لأنه قال: "وقفوا"؛ يريد جماعة كفار؛ ثم قال: "بدا لهم"؛ يريد المنافقين من هؤلاء الكفار؛ والكلام لا يعطي هذا؛ إلا على تحامل؛ قال : وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي - صلى اللـه عليه وسلم - خافوا؛ وأخفوا ذلك الخوف؛ لئلا يشعر به أتباعهم؛ فظهر لهم ذلك يوم القيامة. الزهراوي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه؛ والتعظيم لما شقوا به؛ فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا؛ من معاص؛ وغير ذلك؛ فكيف الظن - على هذا - بما كانوا يعلنون؛ من كفر؛ ونحوه؟ وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى - في تعظيم شأن يوم القيامة -: يوم تبلى السرائر ؛ ويصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في [ ص: 344 ] الدنيا نبوة محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وأقواله؛ وذلك أنهم كانوا "يخفون" ذلك في الدنيا؛ بأن يحقروه عند من يرد عليهم؛ ويصفوه بغير صفته؛ ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم: "هو ساحر؛ هو يفرق بين الأقارب"؛ يريدون بذلك إخفاء أمره؛ وإبطاله؛ فمعنى هذه الآية - على هذا -: "بل بدا لهم يوم القيامة أمرك؛ وصدقك؛ وتحذيرك؛ وإخبارك بعقاب من كفر؛ الذي كانوا يخفونه في الدنيا"؛ ويكون الإخفاء على ما وصفناه.
وقال : المعنى: "ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون من البعث". الزجاج
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فالضميران على هذا ليسا لشيء واحد؛ وحكى المهدوي عن الحسن نحو هذا.
وقرأ ؛ يحيى بن وثاب ؛ والنخعي : "ولو ردوا"؛ بكسر الراء؛ على نقل حركة الدال؛ من "رددوا"؛ إليها. والأعمش
وقوله: ولو ردوا لعادوا ؛ إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد؛ وهذا النوع مما استأثر الله تعالى بعلمه؛ فإن أعلم بشيء منه علم؛ وإلا لم يتكلم فيه.
وقوله تعالى وإنهم لكاذبون ؛ إما أن يكون متصلا بالكلام؛ ويكون التكذيب في إخبارهم؛ على معنى أن الأمر في نفسه بخلاف ما قصدوا؛ لأنهم قصدوا الكذب؛ أو يكون التكذيب في التمني على التجوز الذي ذكرناه؛ وإما أن يكون منقطعا؛ إخبارا مستأنفا عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي - عليه الصلاة والسلام -؛ والأول أصوب.
وقوله تعالى وقالوا إن هي إلا حياتنا ؛ الآية؛ هذا - على تأويل الجمهور - ابتداء كلام؛ وإخبار عنهم بهذه المقالة؛ ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل: وإنهم لكاذبون ؛ مستأنفا مقطوعا؛ خبرا عن حالهم في الدنيا؛ التي من قولهم فيها: إن هي إلا حياتنا الدنيا ؛ وغير ذلك؛ و"إن"؛ نافية؛ ومعنى الآية التكذيب بالحشر؛ والعودة إلى الله تعالى ؛ وقال : قوله: "وقالوا"؛ معطوف على قوله: "لعادوا"؛ أي: "لعادوا لما نهوا عنه من الكفر؛ وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا". ابن زيد
[ ص: 345 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وتوقيف الله تعالى لهم في الآية بعدها على البعث؛ والإشارة إليه في قوله: أليس هذا بالحق ؛ [يردان] على هذا التأويل.
وقوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا ؛ الآية؛ بمعنى: "ولو ترى إذ وقفوا"؛ كما تقدم آنفا من حذف جواب "لو"؛ وقوله: على ربهم ؛ معناه: على حكمه؛ وأمره؛ ففي الكلام - ولا بد - حذف مضاف.
وقوله: "هذا"؛ إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا؛ و"بلى"؛ هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفيا؛ ولا تقتضي نفيه وجحده؛ و"نعم"؛ تصلح للإقرار به؛ كما ورد ذلك في قول الأنصار للنبي - عليه الصلاة والسلام - حين عاتبهم في الحظيرة؛ عقب غزوة "حنين"؛ وتصلح أيضا "نعم"؛ لجحده؛ فلذلك لا تستعمل؛ وأما قول [ ص: 346 ] وغيره: "إنها إنما تقتضي جحده؛ وإنهم لو قالوا: "نعم"؛ عند قوله: الزجاج ألست بربكم ؛ لكفروا"؛ فقول خطأ؛ والله تعالى المستعان.
وقولهم: "بلى وربنا"؛ إيمان؛ ولكنه حين لا ينفع؛ وقوله: "فذوقوا"؛ استعارة بليغة؛ والمعنى: "باشروه مباشرة الذائق"؛ إذ هي من أشد المباشرات.