قوله - عز وجل -:
ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين
والمعنى: "وهدينا من آبائهم؛ وذرياتهم؛ وإخوانهم؛ جماعات"؛ فـ "من"؛ للتبعيض؛ والمراد: "من آمن منهم؛ نبيا كان؛ أو غير نبي"؛ ويدخل عيسى - عليه السلام - في ضمير قوله: "ومن آبائهم"؛ ولهذا قال : الخال أب؛ والخالة أم. محمد بن كعب
"واجتبيناهم"؛ معناه: تخيرناهم؛ وأرشدناهم؛ وضممناهم إلى خاصتنا؛ وأرشدناهم إلى الإيمان؛ والفوز برضا الله تعالى ؛ قال : معناه: أخلصناهم. مجاهد
و"الذرية": الأبناء؛ ويطلق على جميع البشر "ذرية"؛ لأنهم أبناء؛ وقال قوم: "الذرية"؛ تقع على الآباء؛ لقوله تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك ؛ يراد به نوع البشر.
وقوله تعالى ذلك هدى الله يهدي به ؛ الآية: "ذلك": إشارة إلى النعمة في قوله: "واجتبيناهم"؛ وإضافة الهدى إلى الله تعالى إضافة ملك؛ و"لحبط"؛ معناه: تلف؛ وذهب؛ لسوء غلب عليه.
و"أولئك": إشارة إلى من تقدم ذكره؛ و"الكتاب"؛ يراد به المصحف؛ والتوراة؛ والإنجيل؛ والزبور؛ "والحكم"؛ يراد به اللب؛ والفطنة؛ والفقه في دين الله تعالى ؛ و"هؤلاء": إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وإلى كل كفار في ذلك العصر؛ قاله ؛ قتادة ؛ وابن عباس ؛ وغيرهم؛ و"قوما"؛ يراد به مؤمنو أهل والسدي المدينة؛ قاله ؛ ابن عباس ؛ وقتادة ؛ والضحاك ؛ وغيرهم؛ فالآية - على هذا التأويل - وإن [ ص: 412 ] كان القصد في نزولها هذين الصنفين - فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة؛ وقال والسدي أيضا؛ قتادة المراد بالقوم: من تقدم ذكره من الأنبياء؛ والمؤمنين؛ وقال والحسن بن أبي الحسن: : المراد: الملائكة؛ والباء في "بها"؛ متعلقة بقوله: "بكافرين"؛ والباء في "بكافرين"؛ زائدة للتأكيد. أبو رجاء
وقوله تعالى أولئك الذين هدى الله ؛ الآية؛ الظاهر في الإشارة؛ بـ "أولئك"؛ أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء؛ ومن معهم من المؤمنين المهديين؛ ومعنى الاقتداء: اتباع الأثر في القول؛ والفعل؛ والسيرة؛ وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود؛ والأيمان والتوحيد؛ الذي ليس بينهم فيه اختلاف؛ وأما أعمال الشرائع فمختلفة؛ وقد قال - عز وجل -: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ؛ ويحتمل أن تكون الإشارة بـ "أولئك"؛ إلى قوله: "قوما".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم؛ ويقلق بعضها.
قال القاضي ابن الباقلاني: واختلف الناس: هل كان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - قبل مبعثه متعبدا بشرع من كان قبله؟ فقالت طائفة: كان متعبدا؛ واختلف: بشرع من؟ فقالت فرقة: بشرع إبراهيم - عليه السلام -؛ وفرقة: بشرع موسى - عليه السلام -؛ وفرقة: بشرع عيسى - عليه السلام -؛ وقالت طائفة بالوقف في ذلك؛ وقالت طائفة: لم يكن - صلى اللـه عليه وسلم - متعبدا بشرع من كان قبله؛ وهو الذي يترجح.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله في توحيد؛ ولا معتقد؛ لأنا نجد شرعنا ينبئ أن الكفار الذين كانوا قبل النبي - عليه الصلاة والسلام - كأبويه؛ وغيرهما - في النار؛ ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف؛ وذلك في قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ؛ وغير ذلك؛ وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب؛ ولا يكلف؛ وإنما يوجب الشرع؛ فالوجه في هذا أن يقال: إن آدم - عليه السلام -؛ فمن بعده؛ دعا إلى توحيد الله تعالى دعاء عاما؛ واستمر ذلك على العالم؛ فواجب على [ ص: 413 ] الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى ؛ وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك؛ بحسب إيجاب الشرع النظر فيها؛ ولا يعبد غير الله تعالى ؛ فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله تعالى ؛ وهو مع ذلك لم يكفر؛ ولا عبد صنما؛ بل تخلى؛ فأولئك أهل الفترات؛ الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة؛ وهم بمنزلة الأطفال؛ والمجانين؛ ومن قصر في النظر؛ والبحث؛ فعبد صنما؛ وكفر؛ فهذا تارك للواجب عليه؛ مستوجب العقاب بالنار؛ فالنبي - صلى اللـه عليه وسلم - قبل المبعث؛ ومن كان معه من الناس؛ وقبله؛ مخاطبون على ألسنة الأنبياء - عليهم السلام - قبل بتوحيد الله - عز وجل -؛ وغير مخاطبين بفروع شرائعهم؛ إذ هي مختلفة؛ وإذ لم يدعهم إليها نبي؛ وأما فقالت فرقة: لسنا مخاطبين بشيء من ذلك؛ وقالت فرقة: نحن مخاطبون بشرع من قبلنا. بعد مبعث النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم؟
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ومن قال من هذه الطائفة: إن محمدا - عليه الصلاة والسلام - وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم؛ على الإطلاق؛ فقد أحال؛ لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة؛ وإنما يتخذون قول من قال منها: إنا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا؛ ولم تختلف فيه الشرائع؛ وبالآخر مما اختلفت فيه؛ لأنه الناسخ المتقدم؛ ويرتكز في صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن؛ وفي حديث رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - من حكاية أحكام سالفة؛ كقوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ؛ وكقوله: أقم الصلاة لذكري؛ وكحكاية تزويج شعيب - عليه السلام - ابنته بموسى - عليه السلام -؛ وكحديث النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في قضية سليمان - عليه السلام - بين المرأتين في الولد؛ ونحو ذلك.
ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد بذلك؛ وأما وجوب أن يتعبد [به] فغير لازم؛ ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك من أن يقال: النبي - صلى اللـه عليه وسلم - شرع لأمته أن يصلي [الواحد من] الناس صلاته إذا ذكرها؛ ثم مثل في ذلك - لا على طريق التعليل - بقوله - عز وجل - لموسى: [ ص: 414 ] وأقم الصلاة لذكري ؛ فننقل نحن هذا إلى غير ذلك من النوازل؛ ونقول: إنه كما شرع عندنا المثال في نسيان الصلاة؛ كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قياس ضعيف؛ ولو ذكر النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قوله تعالى وأقم الصلاة لذكري ؛ على جهة التعليل؛ لكانت الحجة به قوية؛ ولا يصح أن يقال: يصح عندنا نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم؛ ؛ وغيره؛ صحة ننقلها؛ وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة شرع كعبد الله بن سلام عيسى - عليه السلام - له.
وقرأ ؛ وأهل ابن كثير مكة؛ ؛ ونافع ؛ وأهل وأبو عمرو المدينة؛ : "اقتده"؛ بهاء السكت؛ ثابتة في الوصل؛ والوقف؛ وقرأ وعاصم ؛ حمزة : "اقتد"؛ قال: بحذف الهاء في الوصل؛ وإثباتها في الوقف؛ وهذا هو القياس؛ وهي تشبه ألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء؛ وتوصل غير مبتدإ بها؛ فكذلك هذه؛ تثبت في الوقف؛ وتحذف في الوصل؛ وقرأ والكسائي : "اقتده"؛ بكسر الهاء؛ دون بلوغ الياء؛ قال ابن عامر : وهذا غلط لأنها هاء وقف؛ لا تعرب على حال؛ قال ابن مجاهد : ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر؛ كأنه قال: "اقتد الاقتداء"؛ وقرأ أبو علي ابن ذكوان على هذه: "اقتده"؛ بإشباع الياء بعد [ ص: 415 ] الهاء؛ وقالت فرقة: إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت؛ كما قد تسكن هاء الضمير أحيانا.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف؛ ولا تجوز عليه القراءة بإشباع الياء.
وقوله تعالى قل لا أسألكم ؛ الآية؛ المعنى: "قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله تعالى وتوحيده؛ أستكثر بها؛ وأختص بدنياها؛ إن القرآن إلا موعظة؛ وذكرى؛ ودعاء لجميع العالمين".