قوله - عز وجل -:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون
[ ص: 483 ] لما ذكر الله - عز وجل - ما حرم على أمة محمد - صلى اللـه عليه وسلم - أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود؛ لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم: "إن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا؛ وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه".
وقد تقدم القول في سورة "البقرة" في "هادوا"؛ ومعنى تسميتهم "يهودا".
و كل ذي ظفر ؛ يراد به الإبل؛ والنعام؛ والإوز؛ ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع؛ وله ظفر؛ وقال أبو زيد : "المراد الإبل خاصة"؛ وهذا ضعيف التخصيص؛ وذكر عن النقاش أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر؛ وما يصيد فهو ذو مخلب. ثعلب؛
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا غير مطرد؛ لأن الأسد ذو ظفر؛ وقرأ جمهور الناس: "ظفر"؛ بضم الظاء؛ والفاء؛ وقرأ الحسن؛ "ظفر"؛ بسكون الفاء؛ وقرأ والأعرج أبو السمال؛ قعنب: "ظفر"؛ بكسر الظاء؛ وسكون الفاء.
وأخبرنا الله - عز وجل - في هذه الآية بتحريم الشحوم على بني إسرائيل؛ وهي: الثروب؛ والكلى؛ وما كان شحما خالصا؛ خارجا عن الاستثناء الذي في الآية.
واختلف العلماء في تحريم ذلك على المسلمين؛ من ذبائح اليهود؛ فحكى في "الأشراف"؛ عن ابن المنذر وغيره؛ منع مالك وهو ظاهر "المدونة". أكل الشحم من ذبائح اليهود؛
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا على القول في قوله - عز وجل -: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ؛ بأنه المطعوم من ذبائحهم؛ وأما ما لا يحل لهم؛ فلا تقع عليه ذكاة؛ بل هو كالدم في ذبائح المسلمين؛ وعلى هذا القول يجيء قول - رحمه الله - في "المدونة"؛ فيما ذبحه اليهودي؛ مما لا يحل لهم؛ كالجمل؛ والأرنب: إنه لا يؤكل. مالك
[ ص: 484 ] وروي عن - رحمه الله - كراهية الشحم من ذبائح أهل الكتاب؛ دون تحريم؛ وأباح بعض الناس الشحم من ذبائح أهل الكتاب؛ وذبحهم ما هو عليهم حرام؛ إذا أمرهم بذلك مسلم . مالك
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا على أن يجعل قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ؛ يراد به الذبائح؛ فمتى وقع الذبح على صفته؛ وقعت الإباحة؛ وهذا قول ضعيف؛ لأنه جرد لفظة "وطعام"؛ من معنى أن تكون "مطعوما" لأهل الكتاب؛ وخلصها لمعنى الذبح؛ وذلك حرج لا يتوجه.
وأما الطريق فحرمه قوم؛ وكرهه قوم؛ وأباحه قوم؛ وحلله في "المدونة"؛ ثم رجع إلى منعه؛ وقال مالك : ما كان محرما عليهم؛ وعلمنا ذلك من كتابنا؛ فلا يحل لنا من ذبائحهم. ابن حبيب
وقوله تعالى إلا ما حملت ظهورهما ؛ يريد ما اختلط باللحم؛ في الظهر؛ والأجناب؛ ونحوه؛ قال ؛ السدي وأبو صالح : الأليات مما حملت ظهورهما؛ "أو الحوايا"؛ قال: هو جمع "حوية"؛ على وزن "فعيلة"؛ فوزن "حوايا"؛ على هذا: "فعائل"؛ كـ "سفينة"؛ و"سفائن"؛ وقيل: هو جمع "حاوية"؛ على وزن "فاعلة"؛ فـ "حوايا"؛ على هذا: "فواعل"؛ كـ "ضاربة"؛ و"ضوارب"؛ وقيل: جمع "حاوياء"؛ فوزنها؛ على هذا أيضا: "فواعل"؛ كـ "قاصعاء"؛ و"قواصع"؛ وأما "حوايا"؛ على الوزن الأول؛ فأصلها "حوائي"؛ فقلبت الياء الأخيرة ألفا؛ فانفتحت لذلك الهمزة؛ ثم بدلت ياء؛ وأما على الوزنين الأخيرين؛ فأصل "حوايا"؛ "حواوي"؛ وبدلت الواو الثانية همزة؛ و"الحوية": ما تحوى في البطن؛ واستدار؛ وهي المصارين؛ والحشوة؛ ونحوهما؛ وقال ؛ مجاهد ؛ وقتادة ؛ وابن عباس ؛ والسدي : "الحوايا": [ ص: 485 ] المباعر؛ وقال بعضهم: هي المرابط التي تكون فيها الأمعاء؛ وهي بنات اللبن. وابن زيد
وقوله تعالى أو ما اختلط بعظم ؛ يريد في سائر الشخص.
و"الحوايا"؛ معطوف على "ما"؛ في قوله تعالى إلا ما حملت ؛ فهي في موضع نصب؛ عطفا على المنصوب بالاستثناء؛ وقال : "الحوايا"؛ معطوف على "الظهور"؛ كأنه قال: "إلا ما حملت ظهورهما؛ أو حملت الحوايا"؛ وقال بعض الناس: "الحوايا"؛ معطوف على "الشحوم". الكسائي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وعلى هذا تدخل "الحوايا" في التحريم؛ وهذا قول لا يعضده اللفظ؛ ولا المعنى؛ بل يدفعانه.
وقوله تعالى ذلك جزيناهم ببغيهم ؛ "ذلك"؛ في موضع رفع؛ و جزيناهم ببغيهم ؛ يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على ذنوبهم؛ وبغيهم؛ واستعصائهم على الأنبياء؛ وقوله تعالى "وإنا لصادقون"؛ إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم: "ما حرم الله علينا شيئا؛ وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه"؛ ويتضمن إدحاض قولهم؛ ورده عليهم.