ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
"قست" أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. وقال : المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي، قال إنهم قتلوه، وعاد إلى حال موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب. بعد ما رأوا هذه الآية العظمى لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم. قال ابن عباس : ولم يرث قاتل من حينئذ. عبيدة السلماني
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبمثله جاء شرعنا وحكى رحمه الله في الموطأ: أن قصة مالك أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا ألا يرث قاتل ثم ثبت ذلك الإسلام، كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. وقال ، أبو العالية ، وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك. وقوله تعالى: وقتادة فهي كالحجارة الآية، الكاف في موضع رفع خبر لهي، تقديره: فهي مثل الحجارة أو أشد مرتفع بالعطف على الكاف، "أو" على خبر الابتداء بتقدير تكرار هي، و"قسوة" نصب على التمييز. والعرف في "أو"، أنها للشك، وذلك لا يصح في هذه [ ص: 256 ] الآية. واختلف في معنى "أو"، هنا، فقالت طائفة: هي بمعنى الواو كما قال تعالى: آثما أو كفورا ، أي وكفورا. وكما قال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا أو وحمزة عليا
وقوله تعالى: وإن من الحجارة الآية معذرة للحجارة، وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة. وقال : عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم . وقرأ قتادة : "وإن"، مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد في "لما"، و"ما" في موضع نصب اسم لـ "إن"، ودخلت اللام على اسم "إن" لما حال بينهما المجرور، ولو اتصل الاسم بـ "إن" لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين. وقرأ قتادة "ينفجر" بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم. ووحد الضمير في "منه" حملا على لفظ "ما". وقرأ مالك بن دينار أبي بن كعب، "منها الأنهار" حملا على الحجارة. و"الأنهار" جمع نهر، وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد. والضحاك
وقرأ "لما" بتشديد الميم في الموضعين وهي قراءة غير متجهة. و"يشقق" أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منفسح. طلحة بن مصرف
وقرأ : "ينشقق" بالنون. وقيل في هبوط الحجارة: تفيؤ ظلالها، [ ص: 258 ] وقيل: المراد الجبل الذي جعله الله دكا، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبط بها من علو تواضعا. ابن مصرف
ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجزع الذي أن لفقد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة -لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع ببعض مناظرها- أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب : "ناقة تاجرة"، أي تبعث من يراها على شرائها. وقال : "ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج ماء منه إلا مجاهد من خشية الله نزل بذلك القرآن"، وقال مثله ، وحكى ابن جريج عن فرقة: أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى: الطبري يريد أن ينقض ، وكما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
...................................... ...... والجبال الخشع
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، لأن براعة معنى الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة.
و"بغافل" في موضع نصب خبر "ما"، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية.
وقرأ : "يعملون" بالياء، والمخاطبة على هذا ابن كثير لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الآية. الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. ومعنى هذا الخطاب التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن. والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب. وقال ، مجاهد : عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة والسدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو غيره، كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق : عني السبعون الذين سمعوا مع والربيع موسى ، ثم بدلوا بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب فضيلة موسى عليه السلام، واختصاصه [ ص: 260 ] بالتكليم. وقرأ كلم الله"، وتحريف الشيء إمالته من حال إلى حال، وذهب الأعمش رضي الله عنهما إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل، ولفظ التوراة باق، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن ابن عباس الله تعالى ضمن حفظه.