[ ص: 268 ] قوله عز وجل:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون
المعنى: واذكروا إذ أخذنا، وقال رحمه الله: هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب مكي آدم كالذر، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام.
وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم: لا تعبدون ، وقرأ ، ابن كثير ، وحمزة "لا يعبدون" بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ والكسائي ، أبي بن كعب ، "لا تعبدوا" على النهي. قال وابن مسعود : سيبويه لا تعبدون متعلق لقسم، والمعنى: وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون. وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء، ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، فـ "لا تعبدون" على هذا معمول لحرف النصب، وحكي عن قطرب : أن لا تعبدون إلا الله في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة. ابن كثير
وقال قوم: لا تعبدون إلا الله نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة [ ص: 269 ] "لا تعبدوا". والباء في قوله: "وبالوالدين" قيل: هي متعلقة بالميثاق، عطفا على الباء المقدرة أولا على قول من قال: التقدير: بأن لا تعبدوا. وقيل: تتعلق بقوله "إحسانا"، والتقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحسانا بالوالدين، ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل: تتعلق الباء بأحسنوا، المقدر، والمعنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ "بالوالدين" تهمما فهو نحو قوله تعالى أبي إياك نعبد وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، "وذي" عطف على الوالدين و"القربى" بمعنى القرابة، ومصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم، "واليتامى" جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: . وحكى لا يتم بعد بلوغ أن الماوردي آدم في فقد الأم. وهذا يتضمن اليتيم في بني "والمساكين" جمع مسكين، وهو الذي لا شيء له، [ ص: 270 ] لأنه مشتق من السكون، وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم. الحض على الصدقة والمواساة، وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: وقولوا للناس حسنا ، أمر عطف على ما تضمنه: لا تعبدون إلا الله ، وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله: "وبالوالدين" وقرأ ، حمزة "حسنا" بفتح الحاء والسين، قال والكسائي : هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الأخفش وغيره: بل المعنى في القراءتين: وقولوا قولا حسنا -بفتح السين- أو قولا ذا حسن، بضم الحاء. وقرأ قوم: "حسنى" مثل فعلى، ورده الزجاج لأن أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدرا كالعقبى، فذلك جائز وهو وجه القراءة بها. سيبويه
وقرأ ، عيسى بن عمر . "حسنا" بضم الحاء والسين. وقال وعطاء بن أبي رباح : معنى الكلام: قولوا لهم: لا إله إلا الله، ومروهم بها، وقال ابن عباس : قولوا لهم: حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة ابن جريج محمد صلى الله عليه وسلم. وقال : معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال سفيان الثوري : معناه قولوا لهم الطيب من القول، وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق. أبو العالية
وحكى المهدوي عن أن قوله تعالى: قتادة وقولوا للناس حسنا ، منسوخ بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة الصلاة. وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل، [ ص: 271 ] ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي عن رضي الله عنه أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص . ابن عباس
وقوله تعالى: ثم توليتم الآية، خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه وغيره. و"ثم" مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف. وضمت التاء الأخيرة من "توليتم" لأن تاء المفرد أخذت الفتح، وتاء المؤنث أخذت الكسر، فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم. ابن عباس
و"قليلا" نصب على الاستثناء، قال : والمستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به، قال سيبويه : هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا، والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم، وحديثا المبرد وغيره، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم كابن سلام بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وقرأ قوم "إلا قليل" برفع القليل، ورويت عن . وهذا على بدل قليل من الضمير في "توليتم"، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي; لأن "توليتم" معناه النفي، كأنه قال ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل. والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ أبي عمرو ، طلحة بن مصرف "لا تسفكون" بضم الفاء، وقرأ وشعيب بن أبي حمزة أبو نهيك "لا تسفكون" بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها. وإعراب "لا تسفكون" كما تقدم في "لا تعبدون". و"دماءكم" [ ص: 272 ] جمع دم وهو اسم منقوص، أصله دمي وتثنيته دميان وقيل: أصله دمي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى: ولا تخرجون أنفسكم من دياركم معناه: ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي. ولما كانت ملتهم واحدة، وأمرهم واحدا، وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض، ونفي بعضهم بعضا، قتلا لأنفسهم ونفيا لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول. وقيل: لا تسفكون دماءكم أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك، ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا، ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه، ولا يسترقه، ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.
وقوله تعالى: ثم أقررتم أي خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتوه، فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد، وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما، وقوله وأنتم تشهدون قيل: الخطاب يراد به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود، أي حضور أخذ الميثاق والإقرار. وقيل إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وأنتم شهداء، أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم منكم.