إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان
العامل في "إذ" هو العامل الذي عمل في قوله: وإذ يعدكم بتقدير تكراره، لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف، وإنما القصد أن يعدد نعمه تبارك وتعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال: "واذكروا إذ فعلنا كذا".
[ ص: 145 ] وقال : العامل في "إذ" قوله: الطبري ولتطمئن .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا مع احتماله فيه ضعف، ولو جعل العامل في "إذ" شيئا قريبا مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في "إذ" "حكيم" ، لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل.
وقرأ : "يغشيكم" بضم الياء وسكون الغين. وهي قراءة نافع ، الأعرج وأبي حفص ، وابن نصاح، وقرأ ، عاصم ، وحمزة ، وابن عامر : "يغشيكم" بفتح الغين وشد الشين المكسورة، وهي قراءة والكسائي ، عروة بن الزبير ، وأبي رجاء ، والحسن ، وغيرهم، وقرأ وعكرمة ، ابن كثير : "يغشاكم" بفتح الياء وألف بعد الشين، وهي قراءة وأبو عمرو ، مجاهد وابن محيصن، وأهل مكة "النعاس" بالرفع. وحجة من قرأ "يغشاكم" إجماعهم في آية (أحد) على يغشى طائفة منكم ، وحجة من قرأ "يغشيكم" أن يجيء الكلام متسقا مع "ينزل"، ومعنى "يغشيكم": يغطيكم به ويفرغه عليكم، وهذه استعارة.
والنعاس: أخف النوم، وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماش، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: وينص على ذلك قول الشاعر : "إذا نعس أحدكم في صلاته"،
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
[ ص: 146 ] وقوله: أمنة مصدر من أمن الرجل يأمن أمنا وأمنة وأمانا، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة، وقرأ ابن محيصن: "أمنة" بسكون الميم، وروي عن أنه قال: "النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو، وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان". عبد الله بن مسعود
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده.
وقوله تعالى: وينزل عليكم من السماء ماء تعديد أيضا لهذه النعمة في المطر، فقال بعض المفسرين -وحكاه عن الطبري رضي الله عنه وغيره، وقاله ابن عباس -: إن لكفار يوم الزجاج بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم -بإلقاء الشيطان إليهم-: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية، فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر، وتدمثت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال، وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل، فلما نزل الطش تلبدت، قالوا: فهذا معنى قوله: ليطهركم به أي: [ ص: 147 ] من الجنابة ويذهب عنكم رجز الشيطان أي: عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر. والرجز: العذاب، وقرأ : "رجس" بالسين، أي: وساوسه التي تمقت وتتقذر، وقرأ أبو العالية ابن محيصن: "رجز" بضم الراء، وقرأ : "ويذهب" بجزم الباء. عيسى بن عمر وليربط على قلوبكم أي: بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو، ومنه قولهم: "رابط الجأش"، أي: ثابت النفس عند جأشها في الحرب، ويثبت به الأقدام أي: في الرملة الدهسة التي كان المشي فيها صعبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والصحيح من القول -وهو الذي في سيرة وغيرها- أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر، وفي هذا كلام ابن إسحاق حباب بن المنذر الأنصاري حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء، فقال له حباب: "أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة؟" الحديث المستوعب في السيرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء، وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك، فوقع في نفوسهم من ذلك، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم، وهذا قبل الترائي بالأعين، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل [ ص: 148 ] دهس لين تسوخ فيه الأرجل، وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه، فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان، ودمثت الطريق وتلبدت تلك الرملة فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء، ووقع في السيرة أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون وتبينوا من فعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم فطابت نفوسهم، واجتمعت وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة، فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
هذا أحد ما يحتمله قوله تعالى: ويثبت به الأقدام ، والضمير في "به" على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل أن يعود الضمير في "به" على ربط القلوب، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحربش وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط، وحكى أبو الفتح أن قرأ "وينزل عليكم من السماء ما" ساكنة الألف الشعبي ليطهركم به قال: وهي بمعنى: الذي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف. وقرأ : "ليطهركم" بسكون الطاء، وقوله تعالى: ابن المسيب إذ يوحي ربك إلى الملائكة الآية، العامل في "إذ" العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها، ولو قدرناه قريبا لكان قوله تعالى: ويثبت على تأويل عود الضمير على الربط، وأما [ ص: 149 ] على عوده على الماء فيقلق أن تعمل "ويثبت" في "إذ".
ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض.
وقرأ -بخلاف عنه- "إني معكم" بكسر الألف على استئناف إيجاد القصة، وقرأ جمهور الناس: "أني" بفتح الألف على أنها معمولة لـ "يوحي"، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول. عيسى بن عمر
وقوله تعالى: فثبتوا يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي. ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك، ويحتمل أن يريد: فثبتوهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين، فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين: لقد بلغني أن الكفار قالوا: "لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن"، ويقول آخر: ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر: أقدم يا فلان، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار، ويجري عليه من خواطر تشجيعه، ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت، ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى هذا التأويل يجيء قوله تعالى: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب مخاطبة للملائكة، ثم يجيء قوله سبحانه: فاضربوا فوق الأعناق لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال، كما تقول -إذا وصفت حربا- لمن تخاطبه: "لقينا [ ص: 150 ] القوم وهزمناهم، فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك"، أي هذه كانت صفة الحال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل أن يكون "سألقي" إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضا على نصرة الدين، وقرأ "الرعب" بضم العين، والناس على تسكينها. الأعرج
واختلف الناس في قوله تعالى: فوق الأعناق فقال : "فوق" زيادة، وحكاه الأخفش عن الطبري عطية أن المعنى: فاضربوا الأعناق، وقال غيره: هي بمعنى: على، وقال رضي الله عنهما: هي على بابها وأراد الرؤوس إذ هي فوق الأعناق. وقال عكرمة مولى ابن عباس : وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه. المبرد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا التأويل أنبلها.
ويحتمل عندي أن يريد بقوله: فوق الأعناق وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس، في المفصل.
وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة الجشمي لابن الدغنة السلمي حين قال له: "خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال"، ومثله قول الشاعر:
جعلت السيف بين الجيد منه ... وبينأسيل خديه عذارا
[ ص: 151 ] فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكنا. وقال : "فوق" في هذه الآية بمعنى: دون. وهذا خطأ بين، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: ابن قتيبة ما بعوضة فما فوقها أي: فما دونها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وليست "فوق" هنا بمعنى دون، وإنما المراد: فما فوقها في القلة والصغر، فأشبه المعنى دون، والبنان: قالت فرقة: هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء، فالمعنى على هذا: "واضربوا منهم في كل موضع"، وقالت فرقة: البنان: الأصابع، وهذا هو القول الصحيح، فعلى هذا التأويل -وإن كان الضرب في كل موضع مباحا- فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال.