فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليسوا هم مستبدين بالقتل بالإقدار عليه، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم.
وسبب هذه الآية -فيما روي- أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل، فقال: قتلت كذا وفعلت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية.
وقوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب فرمى بها في وجوه القوم وتلقاءهم ثلاث مرات، فانهزموا عند آخر رمية. ويروى أنه قال يوم بدر: "شاهت الوجوه". وهذه الفعلة أيضا كانت يوم حنين بلا خلاف، وروي أن التراب الذي رمى به [ ص: 157 ] لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار، فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فيحتمل قوله تعالى: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ما قلناه في قوله سبحانه: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وذلك منصوص في وغيره، وهو خارج في كلام الطبري العرب على معنى: وما رميت الرمي الكافي إذ رميت، ونحو قول العباس بن مرداس :
.................. ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي: لن أعط شيئا مرضيا.
ويحتمل أن يريد: وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك، ولكن الله رماه، وهذا أيضا منصوص في المهدوي وغيره.
ويحتمل أن يريد: وما أغنيت إذ رميت حصياتك، ولكن الله رمى، أي: أعانك وأظفرك، والعرب تقول في الدعاء: رمى الله لك، أي: أعانك وصنع لك، وحكى هذا في كتاب المجاز. وقرأت فرقة: "ولكن الله رمى" بتشديد النون، وفرقة: "ولكن الله رمى" بتخفيفها ورفع الهاء من "الله". أبو عبيدة
و وليبلي أي: ليصيبهم ببلاء حسن، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة، وقيل: أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، ومهجع مولى عمر رضي الله عنه، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء، وغيرهم.
إن الله سميع لاستغاثتكم عليم بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو. [ ص: 158 ] وحكى أن المراد بقوله سبحانه: الطبري وما رميت إذ رميت رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبي بن خلف يوم أحد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر، وعلى هذا تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد. وحكي أيضا أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق، فقتله وهو على فراشه. وهذا فاسد، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا. فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه.
وقوله تعالى: ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم، وموضع "ذلكم" من الإعراب رفع، قال : التقدير: الأمر ذلكم، وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل، "وأن" معطوف على "ذلكم"، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره: وحتم وسابق وثابت ونحو هذا. وقرأت فرقة: "وإن" بكسر الهمزة على القطع والاستئناف. و سيبويه موهن معناه: مضعف مبطل، يقال وهن الشيء، مثل: وعد يعد. ويقال: وهن مثل: ولي يلي. وقرئ "فما وهنوا لما أصابهم" بكسر الهاء. وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وابن عامر وأبو بكر عن : "موهن كيد" من أوهن. وقرأ عاصم ، ابن كثير ، ونافع : [ ص: 159 ] "موهن كيد" من وهن. وقرأ وأبو عمرو حفص عن : "موهن كيد" بكسر الدال والإضافة، وذكر عاصم أن فيها أربعة أوجه; فذكر هذه القراءات الثلاث، وزاد "موهن كيد" بتشديد الهاء والإضافة، إلا أنه لم ينص أنها قراءة. الزجاج