إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم
العامل في "إذ" قوله: "التقى" ، والعدوة: شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه، بمنزلة رحا البئر، لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز [ ص: 200 ] الوادي أي منعته، ومنه قول الشاعر:
عدتني عن زيارتك العوادي ... وحالت دونها حرب زبون
ولأنها ما عدا الوادي، أي: جاوزه، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة، وهذه هي العدوة التي في الآية.
وقرأ ، نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة : "بالعدوة" بضم العين، وقرأ والكسائي ، ابن كثير : "بالعدوة" بكسر العين، وهما لغتان، وقرأ وأبو عمرو ، الحسن بن أبي الحسن ، وقتادة وعمرو: "بالعدوة" بفتح العين، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر، قال أبو الفتح: الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن: رغوة ورغوة ورغوة، وروى : كلمته بحضرة فلان وحضرته وحضرته، إلى سائر نظائر ذكر الكسائي أبو الفتح كثيرا منها.
وقوله تعالى: ( الدنيا ) و ( القصوى ) إنما بالإضافة إلى المدينة، وفي حرف : "إذ أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى"، ووادي ابن مسعود بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق، وبينهما مرحلتان، حدثني أبي أنه رأى هذه المواضع على ما وصفت. وقال رضي الله عنهما: " ابن عباس بدر بين مكة والمدينة"، والدنيا من الدنو، والقصوى من القصو وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال في "العين": "شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا". [ ص: 201 ] الخليل والركب بإجماع من المفسرين: غير ، ولا يقال "ركب" إلا لركاب الإبل، وهو من أسماء الجمع، وقد يجمع "راكب" عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر، ولا يقال "ركب" لما كثر جدا من الجموع. وقال أبي سفيان القتبي: "الركب: العشرة ونحوها"، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال "والثلاثة ركب". وقوله: "أسفل" في موضع خفض تقديره: "في مكان أسفل"، كذا قال ، قال سيبويه : نصب "أسفل على الظرف" ، ويجوز "الركب أسفل" على معنى: وموضع الركب أسفل، أو الركب مستقرا أسفل. أبو حاتم
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكان الركب ومدبر أمره قد نكب عن أبو سفيان بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي، وقال في كتاب مجاهد : أقبل الطبري وأصحابه من أبو سفيان الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر أصحاب (محمد صلى الله عليه وسلم) بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على الماء ببدر، من يسقي لهم كلهم، فاقتتلوا فغلبهم أصحابمحمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا تعقب، وكان من هذه الفرق شعور بين من الوقوف على القصة بكمالها.
وقوله تعالى: ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، قال وغيره: لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم، وقال [ ص: 202 ] الطبري المهدوي: المعنى: أي: لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا أنبل وأصح، وإيضاحه أن المقصد من الآية تبيين نعمة الله تبارك وتعالى وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك، والمعنى: إذ هيأ الله لكم هذه الحال، ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله دون تعب كثير: لو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا.
ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل ليقضي أمرا، أي لينفذ ويظهر أمرا قد قدره في الأزل مفعولا لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وذلك كله معدوم عنده.
وقوله تعالى: ليهلك من هلك عن بينة الآية، قال : المعنى: ليقتل من قتل من كفار الطبري قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، ويحيا أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا وإعذار لا حجة لأحد عليه، فالهلاك والحياة -على هذا التأويل- حقيقتان.
وقال وغيره: معنى ابن إسحاق ليهلك أي ليكفر، ويحيا أي ليؤمن، فالهلاك و الحياة -على هذا- مستعارتان، والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان، ويكفر أيضا من كفر عن مثل ذلك.
وقرأ الناس: "ليهلك" بكسر اللام الثانية، وقرأ : "ليهلك" بفتح اللام، ورواها الأعمش عصمة عن عن أبي بكر . عاصم
و البينة صفة، أي: قضية بينة، واللام الأولى في قوله: ليهلك رد على اللام في قوله: ليقضي .
[ ص: 203 ] وقرأ -في رواية ابن كثير - قنبل ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي -في رواية وعاصم حفص -: "من حي" بياء واحدة مشددة، وقرأ ، نافع -في رواية وابن كثير - البزي -في رواية وعاصم -: "من حيي" بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية، قال من قرأ "حي": فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبها بالصحيح مثل عض وشم ونحوه، ألا ترى أن حذف الياء من "جوار" في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذ قلت: "رأيت جواري" لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح، ومنه قوله تعالى: أبي بكر كلا إذا بلغت التراقي ، وعلى نحو "حي" جاء قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه
ومنه قول لبيد :
سألتني جارتي عن أمتي ... وإذا ما عي ذو اللب سأل
وقول المتلمس:
فهذا أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
ويروى: جن ذبابه. [ ص: 204 ] قال وغيره: هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلة فالإدغام في ماضيه جائز، ألا ترى أن قوله تعالى: أبو علي على أن يحيي الموتى لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة؟ ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم؟ ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول:
وكأنها بين النساء سبيكة ... تمشي بسدة بيتها فتعي
قال : وأما قراءة من قرأ: "حيي" فبين ولم يدغم، فإن أبو علي قال: أخبرنا بهذه اللغة سيبويه يونس، قال وسمعنا بعض العرب يقول: "أحيياء" ، قال : القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن، فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام أبو حاتم العرب، والخط فيه ياء واحدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذه اللفظة استوعب القول فيما تصرف من "حيي" كالحي الذي هو مصدر منه وغيره. أبو علي