فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون
دخلت النون مع "فإما" تأكيدا، ولتفرق بينها وبين"إما" التي هي حرف انفصال في قولك: "جاءني إما زيد وإما عمرو " ، ( وتثقفهم ) معناه: تأسرهم وتحصلهم في ثقافك، أو تلقاهم بحال ضعف تقدر عليهم فيها وتغلبهم، وهذا لازم من اللفظ لقوله: في الحرب ، وقيل: ثقف: أخذ بسرعة، ومن ذلك قولهم: رجل ثقف لقف.
وقال بعض الناس: معناه: تصادفنهم، إلى نحو هذا من الأقوال التي لا ترتبط في المعنى، وذلك أن المصادف يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب، والثقاف في اللغة: ما تشد به القناة ونحوها، ومنه قول الشاعر:
إن قناتي لنبع ما يؤيسها ... عض الثقاف ولا دهن ولا نار
[ ص: 220 ] وقال آخر:
تدعو قعينا وقد عض الحديد بها ... عض الثقاف على صم الأنابيب
وقوله تعالى: فشرد معناه طرد وخوف وأبعده عن مثل فعلهم، والشريد: المبعد عن وطن أو نحوه، والمعنى: بفعل تفعله بهم من قتل أو نحوه يكون تخويفا لمن خلفهم، أي: لمن يأتي بعدهم بمثل ما أتوا به، وسواء كان معاصرا لهم أم لا.
وما تقدم الشيء فهو بين يديه وما تأخر عنه فهو خلفه، فمعنى الآية: فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم، فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، والضمير في "لعلهم" عائد على الفرقة المشردة، وقال رضي الله عنهما : المعنى: نكل بهم من خلفهم، وقالت فرقة: "شرد بهم" معناه: سمع بهم، حكاه ابن عباس عن الزهراوي ، والمعنى متقارب لأن التسميع بهم في ضمن ما فسرناه أولا، وفي مصحف أبي عبيدة : "فشرذ" بالذال منقوطة، وهي قراءة عبد الله ، ولم يحفظ "شرذ" في لغة الأعمش العرب، ولا وجه لها إلا أن تكون الذال المنقوطة تبدل من الدال كما قالوا: لحم خراديل وخراذيل، وقرأ أبو حيوة –وحكاها المهدوي عن بخلاف عنه-: "من خلفهم" بكسر الميم من قوله: "من" وخفض الفاء من قوله: "خلفهم" والترجي في قوله" "لعلهم" بحسب البشر، و الأعمش يذكرون معناه: يتعظون.
وقوله تعالى: وإما تخافن الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير: إن هذه الآية هي في بني قريظة، وحكاه عن الطبري ، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر مجاهد بني قريظة قد انقضى عند قوله تعالى: فشرد بهم من خلفهم ثم ابتدأ تبارك وتعالى [ ص: 221 ] في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر، وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشتهرة، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر من قبل المعاهدين، وتتصل عنهم أقوال، وتحس من تلقائهم مبادئ الغدر، فتلك المبادئ معلومة، والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة، وحينئذ ينبذ إليهم على سواء، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين، وقال : "تخاف" في هذه الآية بمعنى: تعلم. يحيى بن سلام
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وليس كذلك، وقوله تعالى: خيانة يقتضي حصول عهد، لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة، فأمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم، وهو النبذ، ومفعول قوله: "فانبذ" محذوف تقديره: إليهم عهدهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا. وقوله: على سواء قيل: معناه: حتى يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم، فتكونون فيه أي: في استشعار الحرب- سواء، وقيل: معنى قوله: على سواء على معدلة، أي: فذلك هو العدل والاستواء في الحق، قال المهدوي: معناه: جهرا لا سرا.
[ ص: 222 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا نحو الأول، وقال : الوليد بن مسلم على سواء معناه: على مهل، كما قال تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واللغة تأبى هذا القول، وذكر أن المعنى: انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر، أي: بين لهم على قدر ما ظهر منهم، لا تفرط ولا تفجأ بحرب، بل افعل بهم مثلما فعلوا بك. الفراء
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يعني موازنة ومقايسة، وقوله تعالى: إن الله لا يحب الخائنين يحتمل أن يكون طعنا على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يريد: فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة، فإن الله لا يحب الخائنين، فيكون النبذ -على هذا التأويل- لأجل أن الله لا يحب الخائنين.
والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والمعدلة، ومنه قوله تعالى: إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ومنه قول الراجز:
فاضرب وجوه الغدر الأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء
وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: في سواء الجحيم . [ ص: 223 ] ومنه قول : حسان بن ثابت
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
وقوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون قرأ ، نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : "ولا تحسبن" بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبكسر السين -غير والكسائي فإنه فتحها- "الذين كفروا" مفعول أول، و"سبقوا" مفعول ثان، والمعنى: فاتوا بأنفسهم وأنجوها، "إنهم لا يعجزون" بكسر ألف "إن" على القطع والابتداء، و"يعجزون" معناه: يفلتون ويعجزون طالبهم، فهو معدى "عجز" بالهمزة، تقول: عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضا، قال عاصم سويد:
وأعجزنا أبو ليلى طفيل ... صحيح الجلد من أثر السلاح
وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، كقريش في بدر وغيرهم، فالمعنى: لا تظنهم ناجين بل هم مدركون، وقيل: معناه: لا يعجزون في الدنيا، وقيل: المراد: في الآخرة، قال : وقرأ أبو حاتم ، مجاهد ، وابن كثير وشبل: "ولا تحسبن" بكسر التاء، وقرأ ، الأعرج ، وعاصم وخالد بن إلياس: "تحسبن" بفتح التاء من فوق وبفتح السين، وقرأ : "ولا يحسب" بفتح السين والياء من تحت وحذف النون، وقرأ الأعمش أبو جعفر بن القعقاع، ، وأبو عبد الرحمن وابن محيصن، : "ولا يحسبن" بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة، وقرأ وعيسى حفص عن ، عاصم ، وابن عامر : "ولا يحسبن" بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون التقدير: ولا يحسبن أحد، ويكون قوله: "الذين كفروا" مفعولا أولا، و"سبقوا" مفعولا ثانيا، وإما أن يكون "الذين كفروا" هم الفاعلون، ويكون المفعول الأول مضمرا، و"سبقوا" مفعول ثانيا، وتقدير هذا الوجه: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، وإما أن يكون "الذين كفروا" هو الفاعل وتضمر "أن" فيكون التقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، وتسد "أن سبقوا" مسد المفعولين. [ ص: 224 ] قال وحمزة : ويكون هذا كما تأوله الفارسي في قوله عز وجل: سيبويه قل أفغير الله تأمروني أعبد ، فالتقدير: "أن أعبد".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ونحوه قول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... .................
قال : وقد حذفت "أن" وهي مع صلتها في موضع الفاعل، وأنشد أبو علي أحمد بن يحيى في ذلك:
وما راعنا إلا يسير بشرطة ... وعهدي به قينا يسير بكير
وقرأ وحده من السبعة: "أنهم لا يعجزون" بفتح الألف من "أنهم" ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون، أي: لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون، وقرأ الجمهور: "يعجزون" بسكون العين، وقرأ بعض الناس فيما ذكر ابن عامر : "يعجزون" بفتح العين وشد الجيم، وقرأ أبو حاتم ابن محيصن: "يعجزون" بكسر النون، ومنحاها "يعجزوني" بإلحاق الضمير، قال : الاختيار فتح النون، ويجوز كسرها على أن المعنى: "إنهم لا يعجزونني"، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين، كما قال الشاعر: الزجاج
[ ص: 225 ]
تراه كالثغام يعل مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
البيت لعمرو بن معديكرب، وقال في قول أبو الحسن الأخفش متمم بن نويرة:
ولقد علمت ولا محالة أنني ... للحادثات فهل تريني أجزع
هذا يجوز على الاضطرار، فقال قوم: حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب، وقال : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية، وهكذا كان يقول في بيت أبو العباس المبرد عمرو بن معديكرب.
وفي مصحف : "ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا إنهم لا يعجزون" ، قال عبد الله : بالياء من تحت وبغير نون في "يحسب". أبو عمرو الداني
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذكر ها بنون. الطبري