أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
قال : الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال سيبويه : هي زائدة، وقال الأخفش : هي "أو"، وفتحت تسهيلا، وقرأها قوم: "أو" ساكنة الواو فتجيء بمعنى "بل" وكما يقول القائل: لأضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله. الكسائي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله متكلف، وأو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول ، وقرئ: "عهدوا عهدا"، وقرأ سيبويه ، الحسن : "عوهدوا"، و"عهدا" مصدر، وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهدا، والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه: النبيذ والمنبوذ. والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله: وأبو رجاء بل أكثرهم ، لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، و"لا يؤمنون" في هذا التأويل حال من الضمير في "أكثرهم" ، ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل، وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف : "نقضه فريق". ابن مسعود
[ ص: 297 ] وقوله تعالى: ولما جاءهم رسول ، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، و"ما معهم" هو التوراة و"مصدق" نعت لـ "رسول"، وقرأ "مصدقا" بالنصب. و"لما" يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها "نبذ" الذي يجيء، و"الكتاب" الذي أوتوه التوراة، و"كتاب الله" مفعول بـ "نبذ"، والمراد القرآن لأن التكذيب به نبذ. وقيل: المراد التوراة لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ. ابن أبي عبلة
و وراء ظهورهم مثل، لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال : الفرزدق
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيى علي جوابها
وقوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الآية، يعني اليهود ، قال : المراد من كان في عهد ابن زيد سليمان ، وقال : المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الجميع، و"تتلوا" قال ابن عباس : معناه تقرأ من التلاوة، وقال عطاء : "تتلوا" تتبع، كما [ ص: 298 ] تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون : المعنى ما كانت تتلوا، وقرأ ابن عباس الحسن : "الشياطون" بالواو، وقوله: والضحاك على ملك سليمان أي على عهد ملك سليمان ، وقيل: المعنى في ملك سليمان ، بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره. وقال : اتبعوا بمعنى فضلوا، و الطبري على ملك سليمان أي على شرعه ونبوته وحاله.
والذي تلته الشياطين قيل: إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان ، وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليمه، فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم، وقيل: إن سليمان عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر، ثم نسبت ذلك إلى سليمان ، وقيل: إن آصف تواطأ مع شياطين على أن يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته، وقيل: إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه، وقيل: إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح؟ هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل، وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر، وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا . وقوله تعالى: وما كفر سليمان تبرئة من الله تعالى لسليمان ، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها آية [ ص: 299 ] نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر، والسحر والعمل به كفر.
عند ويقتل الساحر كفرا، ولا يستتاب كالزنديق، وقال مالك : يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل. وقال الشافعي مالك يعاقب ولا يقتل، واختلف في فيمن يعقد الرجال عن النساء: فقيل: يقتل، وقال ساحر أهل الذمة : لا يقتل إلا إن قتل بسحره، ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ مالك ، نافع ، وعاصم ، وابن كثير ، بتشديد النون من "لكن"، ونصب الشياطين. وأبو عمرو
وقرأ ، حمزة ، والكسائي بتخفيف النون ورفع "الشياطين. قال بعض الكوفيين : التشديد أحب إلي إذا دخلت عليها الواو، لأن المخففة بمنزلة "بل"، و"بل" لا تدخل عليها الواو. وقال وابن عامر : ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد، إلا أنها لا تعمل إذا خففت. أبو علي
وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان. والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، و"السحر" مفعول ثان بـ "يعلمون"، وموضع "يعلمون" نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.
وقوله تعالى: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . "ما" عطف على "السحر" فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس، ليكفر من اتبعه، ويؤمن من تركه، أو على قول وغيره: إن الله تعالى [ ص: 300 ] أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر، أو على القول: إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه،.
وقيل إن "ما" عطف على "ما" في قوله: ما تتلو . وقيل: "ما" نافية، رد على قوله: وما كفر سليمان ، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذلك.
وقرأ ، ابن عباس ، والحسن ، والضحاك وابن أبزي "الملكين" بكسر اللام. وقال : هما ابن أبزي داود وسليمان ، وعلى هذا القول أيضا فما نافية، وقال هما علجان كانا الحسن ببابل ملكين، فـ "ما" على هذا القول غير نافية، وقرأهما كذلك وقال: هما أبو الأسود الدؤلي هاروت وماروت فهذا كقول . و الحسن "بابل" لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟ فقال قوم: هي بالعراق وما والاه، وقال لأهل ابن مسعود الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل . وقال : هي من قتادة نصيبين إلى رأس العين . وقال قوم: هي بالمغرب وهذا ضعيف وقال قوم: هي جبل دماوند .
و هاروت وماروت بدل من "الملكين" على قول من قال: هما ملكان. ومن قرأ "ملكين" بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان ، أو جعل الملكين جبريل وميكائيل جعل "هاروت وماروت" بدلا من الشياطين في قوله ولكن الشياطين وقال: هما شيطانان.
[ ص: 301 ] ويجيء "يعلمون" إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس. ومن قال: كانا علجين قال: هاروت وماروت بدل من قوله: "الملكين".
وقيل: هما بدل من الناس في قوله: يعلمون الناس . وقرأ " الزهري هاروت وماروت " بالرفع، ووجهه البدل من "الشياطين" في قوله: تتلو الشياطين أو من الشياطين الثاني على قراءة من خفف "لكن" ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره: هما "هاروت وماروت". وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني آدم ، وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت ، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة، ففتنا بها، فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان يلعنها. ابن عمر
[ ص: 302 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله ضعيف، وبعيد على رضي الله عنهما. وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من ابن عمر فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله الملائكة على ما كان من هاروت وماروت فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما.
[ ص: 303 ] وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر . وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض ولا يقطع منه بشيء فلذلك اختصرته.