ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم
[ ص: 350 ] الضمير في قوله تعالى: "ومنهم" عائد على المنافقين، و"يؤذون" لفظ يعم جميع ما كانوا يفعلونه ويقولونه في جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، وخص -بعد ذلك- من قولهم: "هو أذن"، وروي أن قائل هذه اللفظة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث "، وكان ثائر الرأس، منتفش الشعرة، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوها.
وروي عن ، الحسن البصري أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم: "هو أذن" أنه يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله، أي: فنحن لا نبالي عن أذاه، ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع، وروي عن ومجاهد رضي الله عنهما وجماعة معه أنهم أرادوا بقولهم: "هو أذن" أنه يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشكك منه ووصف بأنه تسوغ عنده الأباطيل والنمائم. ابن عباس
ومعنى "أذن" سماع، ويسمى الرجل السماع لكل قول أذنا إذا كثر منه استعمال الأذن، فهذه تسمية الشيء بالشيء إذا كان منه بسبب، كما يقال للربيئة: عين، وكما يقال للسمينة من الإبل التي قد بزل نابها: ناب، وقيل: معنى الكلام: ذو أذن، أي: ذو سماع، وقيل: إن قوله تعالى: "أذن" مشتق من قولهم: "أذن للشيء" إذا استمع، كما قال الشاعر وهو علي بن زيد :
[ ص: 351 ]
أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن
وفي التنزيل: وأذنت لربها وحقت ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ومن هذا قول الشاعر : "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن"،
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار
ومنه قول الآخر :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقرأ "أذن" بسكون الذال فيهما، وقرأ الباقون: "أذن" بضم الذال فيهما، وكلهم قرأ بالإضافة إلى "خير" إلا ما روي عن نافع ، وقرأ عاصم ، الحسن بن أبي الحسن ، ومجاهد بخلاف- "أذن خير" برفع "خير" وتنوين "أذن" ، وهذا يجري مع تأويل وعيسى الذي ذكرناه، أي: من يقبل معاذيركم خير لكم، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، ومعنى "أذن خير" على الإضافة، أي سماع خير وحق. عاصم
و يؤمن بالله معناه: يصدق بالله، و ( يؤمن للمؤمنين ) قيل: معناه: ويصدق المؤمنين، واللام زائدة كما هي في قوله سبحانه: ردف لكم ، وقال : هي [ ص: 352 ] متعلقة بمصدر مقدر من الفعل كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين، أي تصديقه، ويقال: "آمنت لك" بمعنى صدقتك، ومنه قوله تبارك وتعالى: المبرد وما أنت بمؤمن لنا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء، فالمعنى: ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك: وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك، والله المستعان.
وقرأ جميع السبعة إلا : "ورحمة" بالرفع عطفا على "أذن"، وقرأ حمزة وحده: "ورحمة" بالخفض عطفا على "خير"، وهي قراءة حمزة ، أبي بن كعب وعبد الله، ، وخصص الرحمة للذين آمنوا إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا به، ثم أوجب تبارك وتعالى للذين يؤذون رسول الله العذاب الأليم وحتم عليهم به. والأعمش
وقوله تعالى: يحلفون بالله لكم الآية، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين، وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر، وهذا قول جماعة من أهل التأويل، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال: "إن كان ما يقول محمد حقا فأنا شر من الحمر"، فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه، فحلف مجتهدا أنه ما فعل، فنزلت الآية في ذلك، وقوله: "والله".
مذهب أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، وهذا كقول الشاعر: سيبويه
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... دك راض والرأي مختلف
[ ص: 353 ] ومذهب أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره: والله أحق أن يرضوه، ورسوله، قال: وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير، حكاه المبرد عنه، وليس هذا بشيء، وفي مصنف النقاش أبي داود فجمع في ضمير، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى" إنما ذلك وقف على "ومن يعصهما" فأدخل العاصي في الرشد، وقيل: الضمير في "يرضوه" عائد على المذكور كما قال "بئس الخطيب أنت" : . رؤبة
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
وقوله: إن كانوا مؤمنين أي: على قولهم ودعواهم.
وقوله: ألم يعلموا الآية، قوله: "ألم" تقرير ووعيد، وفي مصحف : "ألم تعلم" على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ أبي بن كعب ، الأعرج : "ألم تعلموا" بالتاء، و"يحادد" معناه: يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده لهذا وهذا حده لهذا، وقال والحسن : هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد. الزجاج
وقوله: "فأن" مذهب أنها بدل من الأولى، وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر، وأيضا فإن الفاء تمانع البدل، وأيضا فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال، وقال غير [ ص: 354 ] سيبويه : هي مجردة لتأكيد الأولى، وقالت فرقة من النحاة: هي في موضع خبر ابتداء تقديره: "فواجب أن له"، وقيل: المعنى: "فله أن له"، وقالت فرقة: هي ابتداء والخبر مضمر تقديره: "فأن له نار جهنم واجب"، وهذا مردود لأن الابتداء بـ "أن" لا يجوز مع إضمار الخبر، قاله سيبويه ، وحكي عن المبرد قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه، وجميع القراء على فتح "أن" الثانية، وحكى أبي علي الفارسي عن بعض نحويي الطبري البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف، وذكر أنها قراءة أبو عمرو الداني ، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف، ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل، وإذا كانت كذلك وجب كسرها. ابن أبي عبلة