قوله عز وجل:
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون
هذا ابتداء إخبار عنهم وحكم من الله تعالى عليهم بما تضمنته الآية.
فقوله سبحانه: بعضهم من بعض يريد: في الحكم والمنزلة من الكفر، وهذا نحو قولهم: "الأذنان من الرأس" يريدون: في حكم المسح، وإلا فمعلوم أنهما من الرأس، ولما تقدم من قبل: "وما هم منكم" حسن هذا الإخبار.
وقوله: يأمرون بالمنكر يريد: بالكفر وعبادة غير الله، وسائر ذلك من الآية لأن المنافقين الذين نزلت هذه الآيات فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة وذلك بسبب ظهور الإسلام وكلمة الله عز وجل، والقبض هو عن الصدقة وفعل الخير، وقوله تعالى: نسوا الله فنسيهم أي: تركوه حين تركوا نبيه وشرعته فتركهم حين لم يهدهم ولا كفاهم عذاب النار، وإنما يعبر بالنسيان عن الترك مبالغة إذ أبلغ [ ص: 358 ] وجوه الترك الوجه الذي يقترن به نسيان، وعلى هذا يجيء ولا تنسوا الفضل بينكم ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، ثم حكم عليهم عز وجل بالفسق وهو فسوق الكفر المقتضي للخلود في النار. وكان يقول: "فنسيهم" أي: من الخير ولم ينسهم من الشر. قتادة
وقوله تعالى: وعد الله المنافقين الآية، لما قيد الوعد بالتصريح بالشر صح ذلك وحسن وإن كانت آية وعيد محض، والكفار في هذه الآية: المعلنون، وقوله: هي حسبهم أي: كافيتهم وكافية جرمهم وكفرهم نكالا وجزاء، فلو تمنى أحد لهم عذابا لكان ذلك عنده حسبا لهم. ولعنهم الله معناه: أبعدهم عن رحمته، و عذاب مقيم معناه: مؤبد لا نقلة له.
وقوله تعالى: كالذين من قبلكم الآية، أمر الله نبيه أن يخاطب بها المنافقين فيقول لهم: كالذين من قبلكم، والمعنى: أنتم كالذين، أو مثلكم مثل الذين من قبلكم، وقال : المعنى: وعدا كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق بـ"وعد". الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا قلق، ثم قال: كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فأهلكوا، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم.
والخلاق: الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء، وخلاق المرء: الشيء الذي هو به خليق، والمعنى: عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا باب الآخرة فاتبعتموهم أنتم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأورد في تفسير هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: الطبري ، وما شاكل هذا الحديث مما [ ص: 359 ] يقتضي اتباع أمة "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" محمد صلى الله عليه وسلم لسائر الأمم، وهو معنى لا يليق بالآية جدا، إذ هي مخاطبة لمنافقين كفار أعمالهم حابطة، والحديث مخاطبة لموحدين يتبعون سنن من مضى في أفعال دنيوية لا تخرج عن الدين.
وقوله تعالى: وخضتم كالذي خاضوا أي: خلطتم كالذي خلطوا، وهو مستعار من الخوض في المائعات، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأن التصرف في الحقائق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: . "رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة"
ثم قال تعالى: أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة فيحتمل أن يراد بـ "أولئك" القوم الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والاستمتاع بالخلاق، والمعنى: وأنتم أيضا كذلك يعتريكم بإعراضكم عن الحق، ويحتمل أن يريد بـ "أولئك" المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول، وحبط العمل وما جرى مجراه يحبط حبطا إذا بطل بعد التعب، وحبط البطن حبطا بفتح الباء، وهو داء في البطن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، وقوله: في "الدنيا" معناه: -إذا كان في المنافقين-: ما يصيبهم في الدنيا من مقت من المؤمنين وفساد أعمالهم وفي الآخرة بألا تنفع ولا يقع عليها جزاء، ويقوي أن الإشارة بـ "أولئك" إلى المنافقين قوله تعالى في الآية المستقبلة: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم" ألم يأتهم فتأمله.