الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين
قوله تعالى: الذين يلمزون رد على الضمائر في قوله: يكذبون ، وقوله: ألم يعلموا ، وقوله: سرهم ونجواهم و يلمزون معناه: ينالون بألسنتهم، وقرأ السبعة: "يلمزون" بكسر الميم، وقرأ الحسن، ، وأبو رجاء ويعقوب، -فيما روي عنه- "يلمزون" بضم الميم، و"المطوعين" لفظة عموم في كل متصدق، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير، دل على ذلك قوله عطفا على "المطوعين": "والذين لا يجدون"، ولو كان "الذين لا يجدون" قد دخلوا في "المطوعين" لما ساغ عطف الشيء على نفسه، وهذا قول وابن كثير في قوله عز وجل: أبي علي الفارسي من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنه قال: المراد بالملائكة من عدا هذين. وكذلك قال في قوله تعالى: فيهما فاكهة ونخل [ ص: 371 ] ورمان ، وفي هذا كله نظر، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها، وأصل "المطوعين" المتطوعين، فأبدلت التاء طاء وأدغم، وأما المتصدق بكثير الذي كان سببا للآية فأكثر الروايات أنه ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن بن عوف وقيل هو "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت"، رضي الله عنه تصدق بنصف ماله، وقيل: عمر بن الخطاب عاصم بن عدي ، تصدق بمائة وسق، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي، تصدق بصاع من تمر، وقال: يا رسول الله، جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة، فقال المنافقون: الله غني عن صدقة هذا، وقال بعضهم: إن الله غني عن صاع أبي عقيل ، وقيل: إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق كعب بن مالك بأربعة آلاف، وقيل: بأربعمائة أوقية من فضة، وقيل: أقل من هذا. فقال المنافقون: ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله. عبد الرحمن بن عوف
وقوله تعالى: فيسخرون معناه: يستهزئون ويستخفون، وهو معطوف على "يلمزون"، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة، وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله: والذين لا يجدون ، وهذا لا يلزم، لأن [ ص: 372 ] قوله: "والذين" معمول للذي عمل في "المطوعين" فهو بمنزلة قوله: "جاءني الذي ضرب زيدا وعمرا فقتلهما"، وقوله: سخر الله منهم تسمية العقوبة باسم الذنب، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم، وقوله: ولهم عذاب أليم معناه: مؤلم، وهي آية وعيد محض.
وقرأ جمهور الناس: "جهدهم" بضم الجيم، وقرأ وجماعة معه: "جهدهم" بالفتح، وقيل: هما بمعنى واحد، وقاله الأعرج ، وقيل: هما لمعنيين، الضم في المال والفتح في تعب الجسم، ونحوه عن أبو عبيدة . الشعبي
وقوله: الذين يلمزون يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، ويصح أن يكون ابتداء وخبره "سخر"، وفي "سخر" معنى الدعاء عليهم. ويحتمل أن يكون خبرا مجردا عن الدعاء، ويحتمل أن يكون "الذين" صفة جارية على ما قبل، كما ذكرت أول الترجمة.
وقوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط بمعنى: إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، فيكون مثل قوله تعالى: قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ، وبمنزلة قول الشاعر:
أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وإلى هذا المعنى ذهب وغيره في معنى الآية، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييرا، كأنه قال له: إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة، وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك. وذلك الطبري أن رضي الله عنه سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم، فقال: يا رسول الله، أتستغفر للمشركين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر [ ص: 373 ] لهم، فقال له: "يا عمر بن الخطاب إن الله قد خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم، لزدت" عمر ، ونحو هذا من مقاولة في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عمر عبد الله بن أبي ابن سلول، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقينا عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار، ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر. وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولو علمت" فجعل ذلك مما لا يعلمه، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب، وإذا ترتب -كما قلنا- التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى: في سورة المنافقون: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب، منها قوله: إن لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام; ، فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" ، فدليل الخطاب أن "وفي سائمة الغنم الزكاة" لا زكاة في غير السائمة، يرى الزكاة في غير [ ص: 374 ] السائمة، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد: ومالك ومن قتله منكم متعمدا ، فقال : حكم المخطئ والمتعمد سواء، ودليل الخطاب يقتضي غير هذا، وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى، وإلى أصحاب العقبة، وقد قال بعض اللغويين: إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين فهو شديد الأمر، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع، هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك، ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول. مالك
وقوله: "ذلك" إشارة إلى امتناع الغفران، وقوله: والله لا يهدي القوم الفاسقين إما من حيث هم فاسقون، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره.