قوله عز وجل:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
قال ، أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، وابن سيرين : "السابقون الأولون": من صلى القبلتين، وقال وقتادة : "السابقون الأولون": من شهد عطاء بدرا .
[ ص: 392 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحولت القبلة قبل بدر بشهرين.
وقال : ( السابقون الأولون ) : من أدرك بيعة الرضوان، عامر بن شراحيل الشعبي والذين اتبعوهم بإحسان يريد سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال قائل: إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولا يقتضيه اللفظ، وتكون "من" لبيان الجنس، و"الذين" في هذه الآية عطف على قوله: "والسابقون".
وقرأ ، عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن، ، وقتادة وسلام، وسعيد ، ويعقوب بن طلحة ، وعيسى الكوفي: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" برفع الراء عطفا على "والسابقون"، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى: والذين اتبعوهم بإحسان جعل الاتباع عديلا للأنصار، وأسند أن الطبري سمعه فرده فبعث زيد بن ثابت رضي الله عنه في عمر فسأله فقال أبي بن كعب : أبي بن كعب والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فقال رضي الله عنه: ما كنا نرى إلا أنا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال عمر إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة: أبي: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وفي سورة الحشر: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، وفي سورة الأنفال في قوله: والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، فرجع إلى قول عمر ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم: أبي، الأنصار [ ص: 393 ] وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار" فتأمله. "اللهم ارحم
وقرأ : "من تحتها الأنهار" ، وقرأ الباقون: "تحتها" بإسقاط "من"، ومعنى هذه الآية: الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم، والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له، جعلنا الله من الفائزين برحمته ومنه. ابن كثير
وقوله: وممن حولكم من الأعراب الآية. مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته، والإشارة بقوله: وممن حولكم من الأعراب إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله عن منافقيهم، وتقدير الآية: "ومن أهل المدينة قوم أو منافقون"، هذا أحسن ما حمله اللفظ، و"مردوا" قال : معناه: مرنوا عليه ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال أبو عبيدة : أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون. والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير، ومن ذلك قولهم: شيطان مارد ومريد، ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت، وقال بعض الناس: يقال: "تمرد الرجل في أمر كذا" إذا تجرد له، وهو من قولهم: "شجرة مرداء" إذا لم يكن عليها ورق، ومنه: ابن زيد صرح ممرد ، ومنه قولهم: "تمرد مارد وعز الأبلق"، ومنه الأمرد الذي لا لحية له، فمعنى "مردوا" في هذه الآية: لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم.
ثم نفى عز وجل علم نبيه بهم على التعيين، وأسند عن الطبري في قوله تعالى: قتادة لا تعلمهم نحن نعلمهم قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس، فلان في [ ص: 394 ] الجنة، فلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل، قال نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم: قال وما علمي بما كانوا يعملون ، وقال نبي الله شعيب: بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ، وقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تعلمهم نحن نعلمهم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقوله تعالى: سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم . في مصحف رضي الله عنه: "سيعذبهم" بالياء والكلام -على القراءتين- وعيد، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال أنس بن مالك وغيره: هو عذابهم بالقتل والجوع، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا، وقال مجاهد أيضا: عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه، وقال ابن عباس : عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته، وقال ابن إسحاق رضي الله عنهما -وهو الأشهر عنه-: عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق، وروي في هذا التأويل ابن عباس يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة، فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر. عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال: "اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق، واخرج أنت يا فلان، واخرج أنت يا فلان" حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم
[ ص: 395 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بهم هو على جهة التأديب اجتهادا منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين، فهذا أيضا من العذاب، وقال وغيره: العذاب الأول هي علل وأدواء أخبر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يصيبهم بها، وأسند قتادة في ذلك عن الطبري أنه قال: ذكر لنا قتادة باثني عشر رجلا من المنافقين، وقال: "ستة منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره، وستة يموتون موتا" حذيفة ، ذكر لنا أن أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى عمر بن الخطاب ، فإن صلى صلى حذيفة عليه وإلا ترك، وذكر لنا أن عمر قال عمر بن الخطاب أنشدك بالله، أمنهم أنا؟ قال: لا، والله ولا أؤمن منها أحدا بعدك. وقال لحذيفة: في قوله تعالى: ابن زيد سنعذبهم مرتين : أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، لكل صنف عذاب فهو مرتان، وقرأ قول الله تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وقال أيضا: المرتان هي في الدنيا، الأولى: القتل والجوع والمصائب، والثانية: الموت إذ هو للكفار عذاب. وقال الحسن: الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم، والعذاب العظيم هو جميع ما بعد الموت، وأظن ابن زيد أشار إليه. الزجاج