وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
"وإذ" عطف على "إذ" المتقدمة، و"البيت" الكعبة، و"مثابة" يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع لأن الناس يثوبون إليها أي ينصرفون، ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك. قال : دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد الأخفش البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، وقال غيره، هي هاء تأنيث المصدر فهي مفعلة أصلها مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها، وقيل: هو على تأنيث البقعة كما يقال: مقام ومقامة.
وقرأ "مثابات" على الجمع، وقال الأعمش ورقة بن نوفل في الكعبة :
مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الطلائح
وقرأ ، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، و ابن كثير : "واتخذوا" بكسر الخاء [ ص: 344 ] على جهة الأمر، فقال الكسائي وغيره: معنى ذلك ما روي أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي عمر عسى ربه إن طلقكن ، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فهذا أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال عن المهدوي : وقيل: ذلك عطف على قوله: "اذكروا" فهذا أمر لبني إسرائيل. وقال : ذلك أمر الربيع بن أنس لإبراهيم ومتبعيه فهي من الكلمات كأنه قال: ( إني جاعلك للناس إماما واتخذوا ) وذكر المهدوي رحمه الله أن ذلك عطف على الأمر الذي يتضمنه قوله: جعلنا البيت مثابة ، لأن المعنى ثوبوا. وقرأ ، نافع : "واتخذوا" بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي وابن عامر إبراهيم ، وذلك معطوف على قوله: "وإذ جعلنا"، كأنه قال: وإذ اتخذوا، وقيل: هو معطوف على "جعلنا" دون تقدير إذ، فهي جملة واحدة، وعلى تقدير إذ فهي جملتان.
واختلف في مقام إبراهيم فقال ، ابن عباس وغيرهما، وخرجه وقتادة : إنه البخاري إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان الحجر الذي ارتفع عليه إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وغرقت قدماه فيه . وقال : هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه وهو راكب، جاءته به من شق ثم من شق فغرقت رجلاه فيه حين اعتمد عليه. الربيع بن أنس
[ ص: 345 ] وقال فريق من العلماء: المقام : المسجد الحرام . وقال : عطاء بن أبي رباح المقام : عرفة والمزدلفة والجمار . وقال : مقامه: مواقف الحج كلها. وقال ابن عباس : مقامه: الحرم كله، و"مصلى" موضع صلاة، هذا على قول من قال: مجاهد المقام الحجر ، ومن قال بغيره قال: "مصلى" مدعى، على أصل الصلاة.
وقوله تعالى: "وعهدنا"، العهد في اللغة على أقسام هذا منها الوصية بمعنى الأمر، و"أن" في موضع نصب على تقدير بأن وحذف الخافض، قال : إنها بمعنى أي مفسرة فلا موضع لها من الإعراب. سيبويه
و"طهرا" قيل: معناه ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة فيجيء مثل قوله: أسس على التقوى . وقال : هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، وقيل: من الفرث والدم، وهذا ضعيف لا تعضده الأخبار، وقيل: من الشرك. مجاهد
وأضاف الله البيت إلى نفسه تشريفا للبيت ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك، و"للطائفين" ظاهره أهل الطواف، وقاله وغيره. وقال عطاء : معناه للغرباء الطارئين على ابن جبير مكة .
و"العاكفين" قال : هم أهل البلد المقيمون، وقال ابن جبير : هم المجاورون عطاء بمكة . وقال : المصلون. وقال غيره: المعتكفون. ابن عباس
والعكوف في اللغة، اللزوم للشيء والإقامة عليه، كما قال الشاعر:
...................................... عكف النبيط يلعبون الفنزجا
والركع السجود المصلون، وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وكل مقيم عند بيت الله إرادة ذات الله، فلا يخلو من إحدى هذه الرتب الثلاث: إما أن يكون في صلاة، أو في طواف، فإن كان في شغل من دنياه فحال العكوف على مجاورة البيت لا يفارقه.
وقوله تعالى: وإذ قال إبراهيم الآية، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش، و"اجعل" لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، و"آمنا" معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات التي تحل بالبلاد، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيه ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ونبتت فيها أنواع الثمرات.
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل -صلوات الله عليه- فاقتلع فلسطين وقيل قطعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعا وأنزلها بوج ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف.
واختلف في مكة متى كان، فقالت فرقة: جعلها الله حراما يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة: حرمها تحريم إبراهيم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضا النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه: إبراهيم حرم [ ص: 347 ] مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام . اللهم إن
ولا تعارض بين الحديثين لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم ، وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها، وإظهاره ذلك بعد الدثور.
وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين، بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى، ومن نافذ قضائه وسابق علمه. تحريم
و"من" بدل من قوله: "أهله"، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه.
وقوله تعالى: ومن كفر الآية، قال ، أبي بن كعب وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل وابن إسحاق لإبراهيم . وقرؤوا "فأمتعه" بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء "ثم اضطره" بقطع الألف وضم الراء، وكذلك قرأ السبعة حاشا فإنه قرأ "فأمتعه" بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء "ثم أضطره" بقطع الألف. وقرأ ابن عامر "فأمتعه" كما قرأ يحيى بن وثاب "ثم اضطره" بكسر الهمزة على لغة ابن عامر قريش في قولهم: لا إخال، وقرأ "فنمتعه" "ثم نضطره" ومن شرط، والجواب في "فأمتعه". أبي بن كعب
[ ص: 348 ] وموضع "من" رفع على الابتداء والخبر. ويصح أن يكون موضعها نصبا على تقدير: وأرزق من كفر، فلا تكون شرطا. وقال ، ابن عباس ، وغيرهما: هذا القول هو من ومجاهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقرؤوا: "فأمتعه" بفتح الهمزة وسكون الميم، "ثم اضطره" بوصل الألف وفتح الراء. وقرئت بالكسر، ويجوز فيها الضم. وقرأ ابن محيصن : "ثم اطره" بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ : "ثم اضطره" بضم الطاء. يزيد بن أبي حبيب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين.
وقليلا معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال: متاعا قليلا، وإما لزمان كأنه قال: وقتا قليلا، أو زمنا قليلا.
و"المصير" مفعل كموضع من صار يصير، وبيس أصلها بئس، وقد تقدمت في بيسما، وأمتعه معناه: أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلا، لأنه فان منقض.
وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله، قال الشاعر:
وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق