ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين
هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة ويظهر من كلام أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق. الطبري
وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السلام، وذلك أن الله أمره بحمل أهله ، وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله: وإن وعدك الحق ، وبقوله: وأنت أحكم الحاكمين ، فإن هذه الأقوال [ ص: 587 ] معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين.
وقوله تعالى: قال يا نوح الآية، المعنى: قال الله تعالى: يا نوح، وقالت فرقة: المراد بقوله: إنه ليس من أهلك : ليس بولد لك، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه، هذا قول الحسن وابن سيرين : وقال وعبيد بن عمير إنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن ابن أبزى نوح، وحلف أنه ليس بابنه، وحلف الحسن عكرمة أنه ابنه. والضحاك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
عول على قوله تعالى: الحسن إنه ليس من أهلك ، وعول الضحاك على قوله تعالى: وعكرمة ونادى نوح ابنه .
وقرأ الحسن ومن تأول تأويله: "إنه عمل غير صالح" -على هذا- المعنى، وهي قراءة السبعة سوى ، وقراءة جمهور الناس، وقال من خالف الكسائي : المعنى: ليس من أهلك الذين عمهم الوعد لأنه ليس على دينك وإن كان ابنك بالولاء. فمن قرأ من هذه الفرقة: "إنه عمل غير صالح" جعله وصفا له بالمصدر على جهة المبالغة، فوصفه بذلك كما قالت الحسن بن أبي الحسن الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها:
[ ص: 588 ]
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
أي" ذات إقبال وإدبار.
وقرأ بعض هذه الفرقة: "إنه عمل غير صالح"، وهي قراءة ، وروت هذه القراءة الكسائي أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره وعائشة ، وضعف أبو حاتم هذه القراءة وطعن في الحديث بأنه من طريق الطبري ، وهي قراءة شهر بن حوشب علي رضي الله عنهما وابن عباس وعائشة ، ورجحها وأنس بن مالك وقرأ بعضهم: "إنه عمل عملا غير صالح" . وقالت فرقة: الضمير في قوله: "إنه عمل غير صالح" على قراءة جمهور السبعة على سؤال أبو حاتم نوح الذي يتضمنه الكلام وقد فسره آخر الآية ويقوي هذا التأويل أن في مصحف "إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم" . وقالت فرقة: الضمير عائد على ركوب ولد ابن مسعود نوح معهم الذي يتضمنه سؤال نوح، المعنى: أن ركوب الكافر مع المؤمنين عمل غير صالح، وقال : ويحتمل أن يكون التقدير أن كونك مع الكافرين وتركك الركوب معنا عمل غير صالح. أبو علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تأويل لا يتجه من جهة المعنى.
وكل هذه الفرق قال: إن القول بأن الولد كان لغية وولد فراش خطأ محض وقالوا: إنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ما زنت امرأة نبي قط" .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا الحديث ليس بالمعروف، وإنما هو من كلام رضي الله عنهما رضي الله عنه ويعضده شرف النبوة. وقالوا في قوله عز وجل: ابن عباس فخانتاهما إن الواحدة كانت [ ص: 589 ] تقول للناس: هو مجنون والأخرى كانت تنبه على الأضياف، وأما غير هذا فلا، وهذه منازع رضي الله عنهما وحججه وهو قوله: وقول الجمهور من الناس. ابن عباس
وقرأ : "فلا تسلني" بتخفيف النون وإثبات الياء وسكون اللام دون همز. وقرأت فرقة بتخفيف النون وإسقاط الياء وبالهمز "فلا تسألن" ، وقرأ ابن أبي مليكة أبو جعفر وشيبة بكسر النون وشدها والهمز وإثبات الياء "فلا تسألني" ، وقرأ ذلك دون ياء "فلا تسألن" وقرأ نافع ابن كثير "فلا تسألن" بفتح النون المشددة، وهي قراءة وابن عامر ، وقرأ ابن عباس أبو عمرو وعاصم وحمزة "فلا تسلن" خفيفة النون ساكنة اللام، وكان والكسائي يثبت الياء في الوصل، وحذفها أبو عمرو عاصم في الوصل والوقف. ومعنى قوله: وحمزة فلا تسألني ما ليس لك به علم أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذ رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك واجب بحق عند الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة النبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عتابه، ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين ، وقد قال الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: ( فلا تكونن ) ، وذلك هنا بحسب الأمر الذي عوتب فيه وعظمته، فإنه لضيق صدره بتكاليف النبوة، وإلا فمتقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل البشر وأولاهم بلين المخاطبة، ولكن هذا بحسب الأمرين لا بحسب النبيين. وقال قوم: إنما وقر نوح لسنه. وقال قوم: إنما حمل اللفظ على محمد صلى الله عليه وسلم كما يحمل الإنسان على المختص به الحبيب إليه.
[ ص: 590 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله ضعيف.
ويحتمل قوله: فلا تسألني ما ليس لك به علم ، أي: لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا ، وقال: إن "به" يجوز أن يتعلق بلفظة "علم" كما قال الشاعر: أبو علي الفارسي
كان جزائي بالعصا أن أجلدا
ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحد، وروي أن هذا الابن إنما كان ربيبه وهذا ضعيف وحكى عن الطبري أن معنى قوله: ابن زيد إني أعظك أن تكون من الجاهلين في أن تعتقد أني لا أفي لك بوعد وعدتك به.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تأويل بشع، وليس في الألفاظ ما يقتضي أن نوحا اعتقد هذا وعياذا بالله، وغاية ما وقع لنوح عليه السلام أن رأى ترك ابنه معارضا للوعد فذكر به، ودعا بحسب الشفقة ليكشف له الوجه الذي استوجب به ابنه الترك في الغرقى.