وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
قرأت فرقة: "عشاء"، أي: وقت العشاء. وقرأ : "عشى" على مثال دجى، أي جمع "عاش"، قال الحسن أبو الفتح : عشاة كماش ومشاة، ولكن حذفت الهاء تخفيفا كما حذفت من "مألكة"، وقال عدي:
أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن [ ص: 54 ] شريح يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا، قال: فأين يوسف ؟ قالوا: ذهبنا نستبق.. فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ وسيأتي قصص ذلك.
و"نستبق" معناه: على الأقدام، أي: نجري غلابا، وقيل: بالرمي، أي: ننتصل، وهو نوع من المسابقة، قاله . الزجاج
وقولهم: وما أنت بمؤمن أي: بمصدق، ومعنى الكلام: أي: لو كنا موصوفين بالصدق وقيل: المعنى: ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديما لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول ذكره وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم: الزجاج ولو كنا صادقين بمعنى: وإن كنا صادقين، وقاله ، كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة، فهو تماد منهم في الكذب، ويكون بمنزلة قوله تعالى: المبرد أولو كنا كارهين . بمعنى: أو إن كنا كارهين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط في هذا الموضع، وقال: "ألزموا أباهم عنادا" ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك. بل قالوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا، ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: الرماني الحديث، فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه.."
[ ص: 55 ] الكاذب، وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبي حين حلف على مقالة وكذب زيد بن أرقم زيدا، حتى نزل الوحي فظهر الحق، فكلام إخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد.
وقوله تعالى: وجاءوا على قميصه بدم كذب الآية. روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا أثر ناب. فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ قص هذا القصص وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص، واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة وغيرها في قول ابن عباس ، إلى غير ذلك، قال مالك : كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم، وشهادته في قده، ورد بصر الشعبي يعقوب به، وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئبا فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب: هذا أكل يوسف ، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.
ووصف الدم بـ "كذب" إما على معنى: بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى: مكذوب عليه، كما قد جاء (المعقول) بدل (العقل) في قول الشاعر:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا
[ ص: 56 ] فكذلك يجيء (التكذيب) مكان (المكذوب).
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
هذا كلام ، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي (المعقول) يقتضي نفي (العقل) ولا يحتاج إلى بدل، وإنما الدم الكذب عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة. وقرأ الطبري : "بدم كدب" بدال غير معجمة، ومعناه: الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية. الحسن
ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي: رضيت وجعلت سؤلا ومرادا. "أمرا" أي: صنعا قبيحا بيوسف ، وقوله: فصبر جميل رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر، إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير: فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب ، قرئا بالنصب: "فصبرا جميلا" على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف وعيسى بن عمر ومصحف أبي وهي قراءة ضعيفة عند أنس بن مالك ، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر: سيبويه
........................
صبرا جميلا فكلانا مبتلى
وينشد أيضا بالرفع، ويروى: "صبر جميل" على نداء الجمل المذكور في قوله:
شكا إلي جملي طول السرى ... يا جملي ليس إلي المشتكى
صبر جميل فكلانا مبتلى
وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدر أن يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة [ ص: 57 ] نفسه أثناء مخاطبة بنيه، وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بث لم يصبر صبرا جميلا". وقوله: والله المستعان على ما تصفون تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير: على احتمال ما تصفون.