وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون
المعنى: أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به وتولى عنهم أي زال بوجهه عنهم، وجعل يتفجع ويتأسف. قال : خصت هذه الأمة بالاسترجاع، ألا ترى إلى قول الحسن يعقوب : يا أسفى ؟
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والمراد: يا أسفي، لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا نحو: يا أبتا ويا غلاما . [ ص: 134 ] ونادى الأسف على معنى: احضر فهذا من أوقاتك. وقيل: قوله: "يا أسفى" على جهة الندبة، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلدا منه عليه السلام، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل. وقيل: قوله: "يا أسفى" نداء فيه استغاثة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا يبعد أن يجتمع "الاسترجاع" و"يا أسفا" لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام.
وابيضت عيناه من الحزن أي: من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن، وروي يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى، وأعطي أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله قط، رواه أن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن ، ابن عباس : "الحزن" بفتح الحاء والزاي، وقرأ ومجاهد بضمهما، وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي. قتادة
" وهو كظيم " بمعنى: كاظم، كما قال: والكاظمين الغيظ ، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر، وقال ناس: "كظيم" بمعنى: مكظوم. وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله: إذ نادى وهو مكظوم ، وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره، وجري "كظيم" على باب "كاظم" أبين، وفسر ناس "الكظيم" بالمكروب وبالمكدور، وذلك كله متقارب. وقال الأسف إذا كان من جهة من هو [ ص: 135 ] أقل من الإنسان فهو غضب، ومنه قول الله تعالى: منذر بن سعيد: فلما آسفونا انتقمنا منهم ، ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم: "فأسفت فلطمتها"، وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو هم وحزن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتحرير هذا المنزع أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها.
وقوله تعالى: قالوا تالله تفتأ الآية. المعنى: تالله لا تفتأ، فتحذف (لا) في هذا الموضع من القسم لدلالة الكلام عليها، فمن ذلك قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومنه قول الآخر:
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
أراد: لا يبرح، ولا يبقى. وقال وقد تحذف أيضا (ما) في هذا [ ص: 136 ] الموضع، وخطأه بعض النحويين. ومن المواضع التي حذفت فيها (لا) ويدل عليها الكلام، قول الشاعر: الزجاجي:
فلا -وأبي دهماء- زالت عزيزة ... على قومها ما فتل الزند قادح
وقوله: "ما فتل الزند قادح" يوجب أن المحذوف (لا) ، وليست (ما) .
و(فتئ) بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل، تقول: "والله لا فتئت قاعدا" كما تقول: "لا زلت ولا برحت"، ومنه قول أوس بن حجر:
فما فتئت حتى كأن غبارها ... سرادق يوم ذي رياح ترفع
و "الحرض": الذي قد نهكه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور: "حرضا" بفتح الراء والحاء، وقرأ بضمهما، وقرأت فرقة: "حرضا" بضم الحاء وسكون الراء، وهذا كله المصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والجمع بلفظ واحد، كعدل وعدو، وقيل في قراءة الحسن بن أبي الحسن : إنه فتات الأشنان، أي: باليا متفتتا، ويقال من هذا المعنى الذي هو شن الهم والهرم: "رجل حارض"، ويثنى هذا البناء ويجمع ويؤنث [ ص: 137 ] ويذكر، ومن هذا المعنى قول الشاعر: الحسن
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
وقد سمع من العرب "رجل محرض"، قال الشاعر وهو امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كإحراض بكر في الديار مريض
والحرض -بالجملة-: الذي فسد ودنا موته، قال : الحرض: ما دون الموت، قال مجاهد : الحرض: البالي الهرم، وقال نحوه قتادة الضحاك ، وقال والحسن : "حرضا": معناه: فاسد لا عقل له، فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر الحسن يوسف إلى حال القرب من الهلاك، أو إلى الهلاك، فأجابهم يعقوب عليه السلام رادا عليهم: إني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله.
و "البث": ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أن يبثه وينشره، وأكثر ما يستعمل البث في المكروه، وقال وغيره: البث: أشد الحزن، وقد يستعمل البث في المخفي على الجملة، ومنه قول المرأة في حديث أبو عبيدة "أم زرع": (ولا يولج الكف ليعلم البث) ، [ ص: 138 ] ومنه قولهم: "أبثك حديثي".
وقرأ "وحزني" بفتح الحاء والزاي. عيسى:
وحكى بسند أن الطبري يعقوب دخل على فرعون وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له فرعون : ما بلغ بك هذا يا إبراهيم؟ فقالوا: إنه يعقوب ، فقال: ما بلغ بك هذا يا يعقوب ؟ قال له: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: يا يعقوب ، أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب، خطيئة فاغفرها لي. وأسند إلى الطبري قال: كان بين خروج الحسن يوسف عن يعقوب إلى دخول يعقوب على يوسف ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، ولم يزل يبكي حتى كف بصره، وما في الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب .
وقوله: أعلم من الله ما لا تعلمون يحتمل أنه أشار إلى حسن ظنه بالله وجميل عادة الله عنده، ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة، أو إلى ما وقع في نفسه عن قول ملك مصر : إني أدعو له برؤية ابنه قبل الموت، وهذا هو حسن الظن الذي قدمناه.