قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
روي أن يوسف عليه السلام لما قال إخوته: مسنا وأهلنا الضر واستعطفوه -رق ورحمهم، قال : وارفض دمعه باكيا فشرع في كشف أمره إليهم، فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم: ابن إسحاق هل علمتم الآية.
وقوله: فعلتم بيوسف وأخيه يريد: من التفريق بينهما في الصغر، والتمرس بهما، وإذاية (يامين) بعد مغيب يوسف ، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه، ولم يشر إلى قصة (يامين) الآخيرة لأنهم لم يفعلوا هم فيها شيئا، ونسبهم إما إلى جهل المعصية، [ ص: 144 ] وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة، فلما خاطبهم هذه المخاطبة -ويشبه أن يكون قد اقترن بها من هيئته وبشره وتبسمه ما دلهم- تنبهوا ووقع لهم من الظن القوي أنه يوسف ، فخاطبوه مستفهمين استفهام تقرير.
وقرأت فرقة: أإنك لأنت يوسف بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بإدخال ألف بين همزتين وتحقيقهما: "آئنك" ، وقرأت فرقة بتسهيل الثانية "أينك"، وقرأ ابن محيصن ، ، وقتادة : "إنك" على الخبر وتأكيده، وقرأ وابن كثير "أئنك أو أنت يوسف "، قال أبي بن كعب: أبو الفتح : ينبغي أن يكون هذا على حذف خبر (إن)، كأنه قال: أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف ؟
وحكى الداني: أن في قراءة أبو عمرو : "أو أنت أبي بن كعب يوسف ". وتأولت فرقة ممن قرأ: "إنك" أنها استفهام بإسقاط حرف الاستفهام، فأجابهم يوسف كاشفا أمره، قال: أنا يوسف وهذا أخي ، وقال : أراد: من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن، وقال مجاهد من يتق الزنى ويصبر على العزوبة. إبراهيم النخعي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومقصد اللفظ إنما هو العموم في العظائم، وإنما قال هذان ما خصصنا ؛ لأنها كانت من نوازله، ولو فرضنا نزول غيرها به لاتقى وصبر.
وقرأ الجمهور: "يتق" بغير ياء، وقرأ وحده: "يتقي" بإثبات الياء، واختلف في وجه ذلك -فقيل: قدر الياء متحركة وجعل الجزم في حذف الحركة، كما قال الشاعر: ابن كثير
[ ص: 145 ]
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد؟
قال : وهذا مما لا نحمله عليه، لأنه يجيء في الشعر لا في الكلام، وقيل: "من" بمعنى الذي، و"يتقي" فعل مرفوع، و "يصبر" عطف على المعنى، لأن "من" وإن كانت بمعنى الذي ففيها معنى الشرط، ونحوه قوله تعالى: أبو علي فأصدق وأكن ، وقيل: أراد: "يصبر" بالرفع، لكنه سكن الراء تخفيفا، كما قرأ : "ويأمركم" بإسكان الراء. أبو عمرو
وقوله تعالى: قالوا تالله لقد آثرك الله علينا الآية، هذا منهم استنزال ليوسف ، وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه، و"آثرك" لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية، ولا يجوز تحقيقها، والمصدر إيثار.
وخاطئين: من خطئ يخطأ، وهو المتعمد للخطأ، والمخطئ: من أخطأ وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه، ومن ذلك قول الشاعر -وهو أمية بن الأسكر -:
وإن مهاجرين تكنفاه ... غداة غد لقد خطئا وخابا
وقوله: لا تثريب عليكم عفو جميل، وقال : "أوحى الله إلى عكرمة يوسف : [ ص: 146 ] بعفوك عن إخوتك رفعت لك ذكرك". وفي الحديث أن أبا سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل، فشق ذلك عليهما وأتيا فكلفاه الشفاعة، فأبى، وأتيا أبا بكر رضي الله عنه فكذلك، فذهب عمر إلى ابن عمه أبو سفيان بن الحارث رضي الله عنه، وذهب علي عبد الله إلى أخته فقال أم سلمة، رضي الله عنه: الرأي أن تلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفل فتصيحان به: "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين"، فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء، فلا بد لذلك أن يقول: "لا تثريب عليكما"، ففعلا ذلك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي لا تثريب عليكم الآية.
والتثريب: اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام : أي: لا يعير، أخرجه الشيخان في الحدود. "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب" ،
ووقف بعض القرأة: "عليكم"، وابتدأ: اليوم يغفر الله لكم ، ووقف أكثرهم: "اليوم"، وابتدأ: يغفر الله لكم على جهة الدعاء، وهو تأويل ابن إسحاق ، وهو الصحيح، و"اليوم" ظرف، وعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به "عليكم"، تقديره: لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم. وهذا الوقف أرجح في المعنى، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي. والطبري